نقد

أكثر من رأفت الميهي (4-6)

أسامة عبدالفتاح

 

القضية المؤسفة، الخاصة بفيلم "للحب قصة أخيرة" كانت نهاية المرحلة الثانية من مسيرة رأفت الميهي السينمائية، وبدأت المرحلة الثالثة عام 1987 بإخراجه فيلم "السادة الرجال"، وكانت – كالعادة – مختلفة تماما عن سابقتيها، ولابد من التوقف طويلا عندها، ليس فقط لأنها آخر مراحله واستقرت عندها شخصيته الفنية، ولكن أيضا لأنها شهدت أكثر تحولاته حدة، وأكبر كم من الصعوبات واجهها في مشواره.

 

من الواقعية، والواقعية السحرية، والدراما النفسية، و"الفيلم نوار"، والميلودراما، وكل الأنواع التي قدمها في المرحلتين السابقتين، إلى الفانتازيا والعبث المطلق والكوميديا الصرفة – "الفارص" إن شئت التعبير – في "السادة الرجال" وما تلاه من أفلام حتى فيلمه الأخير "شرم برم" (2007).. كيف حدث هذا التحول الحاد المفاجئ، الذي جاء بعد عامين فقط من تقديمه "للحب قصة أخيرة"؟

أويما 20 - Uima20 | أكثر من رأفت الميهي (4-6)

 

للإجابة، لابد من استعراض الأوضاع السياسية والاجتماعية والسينمائية أيضا في مصر في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، وفي عقد التسعينيات كله، وهي الفترة التي صنع خلالها الميهي معظم أفلامه الفانتازية أو العبثية، في رد محتمل على ما أحاط به من تطورات وما تعرض له من ضغوط.

 

كان الرئيس المخلوع حسني مبارك – بعد مرور بضع سنوات على توليه الحكم – قد بدأ يطرب للنفاق، ويحب المنافقين، ويلتصق بالكرسي، ويستعد للبقاء مدى الحياة.. وكان قد تحول إلى "زعيم" معزول في قصره لا يستمع ولا يثق إلا في البطانة السيئة المحيطة به.. وعلى أساس أن "الناس على دين ملوكهم"، انطلقت على الفور صناعة "الزعيم الأوحد" في كل مجال وقطاع على أيدي البطانات المنتفعة، وانسحب ذلك على السينما، فأصبح هناك زعيم للإخراج، وآخر للنقد السينمائي، وثالث للسيناريو.. إلى آخره.

 

وكما تجاوبت السينما مع الإشارات الإيجابية لمبارك في بداية فترة حكمه، تجاوبت مع الإشارات والممارسات السلبية التي ظهرت في دائرة سلطته وتزايدت بمرور السنوات، وبدأ السينمائيون يدركون أنه ليس الحاكم الذي تخيلوه أو تمنوه، وانعكس موقفهم الجديد على أعمالهم واختياراتهم.

 

وكانت التسعينيات عقدا مفصليا في تاريخ الوطن العربي، ومنطقة الشرق الأوسط، وفي فترة حكم مبارك بشكل خاص، ليس لأنها تتوسط هذه الفترة، ولكن لأنها شهدت حماقة غزو العراق للكويت، ثم تدمير العراق نفسه على أيدي الولايات المتحدة وحلفائها، في مأساة غيرت وجه المنطقة وموازين القوى والمصالح فيها إلى الأبد.. كما شهدت موجة الإرهاب الدموية التي اجتاحت مصر ودولا أخرى خلال النصف الأول من العقد، وتركت جرحا غائرا ما زلنا جميعا نحاول علاجه.

 

أويما 20 - Uima20 | أكثر من رأفت الميهي (4-6)

 

وكان من الطبيعي أن ينعكس كل ذلك على السينما، التي سرعان ما بدأت تخلع عباءة "الواقعية"، التي كانت قد ارتدتها في الثمانينيات، لنفورها من الواقع المرير.. وانعكس هروب السينمائيين المصريين من الواقع في اللجوء للترميز، والسينما الذهنية، التي قام أغلبها على أعمال أدبية، والعودة إلى التاريخ بشكل مشوه وممسوخ، كما فعل يوسف شاهين في "المهاجر" و"المصير"، وفي الدق على أبواب الدجل والشعوذة في أفلام مثل "البيضة والحجر" و"عتبة الستات"، وفي النقل عن الأفلام الأمريكية بلا حرج لتقديم "أكشن" ضعيف ومتهافت في أعمال مثل "الباشا" و"الإمبراطور" و"شمس الزناتي".

 

وما يهمنا هنا، أن رفض الواقع والنفور منه انعكس أيضا في اللجوء إلى الفانتازيا كما فعل عدد من المخرجين منهم رأفت الميهي، ولا يعني ذلك بالضرورة أن هذا هو السبب الوحيد لتحوله الفني الحاد، فهناك بالتأكيد أسباب أخرى، منها قناعاته الشخصية، وتفاعله مع ظروف وشروط السوق –خاصة أنه يعمل بالإنتاج– وظروف وأجواء الأزمات التي عصفت بالسينما خلال تلك الفترة.

 

وقد تتعجل – كما فعلت أنا شخصيا في يوم من الأيام – وتصف هذه المرحلة بأنها الأضعف في تاريخ الميهي الطويل، وأنه لم يقدم خلالها ما يرقى لما حمل توقيعه منذ بدأ الكتابة للسينما وحتى ألّف وأخرج "للحب قصة أخيرة"، لكنك لابد أن تتروى قليلا قبل إصدار مثل هذا الحكم.

 

وربما تساعدك الكلمات التي وصف بها الفنان الكبير –في حواره معي– حال السينما والسينمائيين خلال تلك الفترة التي شهدت اتجاهه للعبث والكوميديا، حيث قال: "ظللت أكثر من 30 سنة (أهاتى) دون أن يشعر بي أحد ودون أن يستمع أحد.. حتى بدا لي أنه لا يوجد أمل في الحل.. المشكلة أن هناك أناسا لا يحبون السينما ولا يدركون ما يمكن أن تضيفه للدخل القومي المصري.. عندهم كنز ولا يعرفون كيف يستثمرونه.. نبحث عن البترول تحت الأرض وفوق الأرض صناعة هي الفريدة من نوعها في الشرق الأوسط..

أويما 20 - Uima20 | أكثر من رأفت الميهي (4-6)

السينما يمكن أن تحقق مليار دولار سنويا.. وكما ندعم صناعة السياحة وصناعة البترول ونسافر إلى دول العالم لكي ندافع عن صناعة القمصان وتجارة البطاطس، يجب أن نعطى صناعة السينما – التي ليس لها منافس في المنطقة – مثل هذا الدعم أو حتى نصفه لأنها ليست أقل من هذه الصناعات.. وليس معنى ذلك أن ينتج القطاع العام، بل يعنى ان السينما تحتاج إلى دفعة قوية من الدولة تشمل مجموعة من القرارات والقوانين لتشجيع الاستثمار.. يجب أن يفهم المستثمر أنه يستطيع أن يكسب من السينما أكثر مما يكسب من صناعة الجلود.

 

لا أمل ولا حل سوى في إعادة النظر في صناعة السينما برمتها، ووضع دراسة جدوى اقتصادية (مهما كانت تكلفتها) للسينما المصرية لعشر سنوات لكي نحدد بالضبط ما هو المطلوب لكل قطاع من قطاعاتها لتحقيق المرجو منها وتشجيع الاستثمار. أما السينمائيون فإنهم يفعلون أقصى ما في استطاعتهم ويعملون في ظروف بالغة الصعوبة.. ونوع من القسوة الإنسانية أن تطلب من السينمائيين أن يفعلوا المزيد..

 

هؤلاء الناس الذين يعشقون الفن ويعشقون السينما وينحتون في الصخر ويصنعون أفلاما جيدة رغم الأوضاع المتردية للسينما وستوديوهاتها ومعاملها وقاعاتها، يستحقون أن نقيم لهم تمثالا مثل الجندي المجهول ونسميه (السينمائي المجهول). هل يعلم أحد أننا ننتج بقروض من البنوك ونعمل بدون حماية؟ المسئولون عن السينما أقاموا الصناعة وعملوا فيها طويلا لكن السن لها حكمها والقضية في حاجة إلى خيال خصب شاب وقرار حاسم، قبل أن نتصور أن هناك من يخطط لضرب صناعة السينما المصرية ومن يستهدف تدمير المنتجين حتى يتوقفوا عن العمل".

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى