” توحه”.. سندريلا بواقعية مصرية شفافة ودراما مؤلمة بلا صراخ
"عيد ميلاد سعيد" من الأوسكار إلى افتتاح الجونة

رانيا الزاهد
في فيلمها الروائي الطويل الأول “عيد ميلاد سعيد” الذي عرض في افتتاح مهرجان الجونة السينمائي تُعيد سارة جوهر من خلال شخصية “توحه”، الطفلة التي تعمل خادمة في بيت أسرة ثرية، إنتاج أسطورة سندريلا، ولكن بلغة مصرية خالصة، ووعيٍ اجتماعي وسياسي يتجاوز الحدود الجغرافية، لتُعرّي عبره منظومة اجتماعية تُقسّم البشر بين من يملكون الحق في الفرح ومن يُسمح لهم فقط بالمشاهدة.
في البداية تأخذنا المخرجة إلى حياة طبيعية بين طفلتين تتشاركان اللعب والضحك، قبل أن نكتشف أن “توحه” ليست أخت نيللي ولا إحدى قريباتها، بل خادمة في بيت أسرتها. ومع ذلك تحمل في قلبها حلمًا بسيطًا وهو أن تشارك في حفلة عيد ميلاد ابنة مخدوميها. “توحه” ليست أميرة تنتظر فستانًا سحريًا أو عربة تجرها الخيول، بل طفلة في الثامنة تنظف البيت بيديها الصغيرتين وتغسل الصحون بابتسامة لا تعرف الانكسار. تعمل بحب، وتنتظر الحفل بلهفة تشبه انتظار المعجزة. غير أن القدر أو بالأحرى اختلاف الطبقة الاجتماعية يحرمها من هذه الفرحة حين ترفض الأسرة وجودها في الحفل الذي ساعدت في صنعه. عند تلك اللحظة، ينكسر الحلم، وتتحول شمعة الأمل إلى رماد.

سندريلا في النسخة الواقعية
تشابهات “توحه” مع سندريلا ليست مصادفة، بل بناء مقصود من سارة جوهر التي شاركت زوجها المخرج محمد دياب كتابة سيناريو الفيلم، ونجحا سويا في تحويل الأسطورة إلى مرآة للواقع.
الفستان الذي ارتدته توحه من بقايا ملابس نيللي القديمة يتحول إلى رمزٍ للتماهي بين الطبقتين، وإلى لحظة كشفٍ عن حدود “الرحمة الطبقية”؛ فحين ترى نيللي خادمتها ترتدي فستانها القديم، تغضب، كما غضبت أخوات سندريلا من رداءها البسيط قبل الحفل.ثم تأتي لقطة حذاء توحه الصغير الذي يرافقها في رحلتها إلى الحفل بمساعدة صديقها أو أميرها الصغير، الذي لم يحملها في عربة تجرها الخيول ولكن “التوكتوك” الذي يعمل عليه في القرية، لتكمل دائرة الأسطورة؛ لكنها هنا ليست رحلة نحو القصر، بل عودة إلى واقعٍ قاسٍ يرفضها قبل أن تصل.
من خلال هذه التفاصيل الدقيقة، استطاعت جوهر أن تستعير الخطوط الكبرى لقصة سندريلا، لتصنع منها ملحمة اجتماعية واقعية. فبدلًا من العصا السحرية، هناك “الإرادة” وبدلًا من النهايات السعيدة، هناك وعي مؤلم بأن بعض الأمنيات لا يمكن أن تتحقق.

الوجع بنعومة
أعظم ما في فيلم عيد ميلاد سعيد أنه يُوجِع دون أن يصرخ، تتعامل سارة جوهر مع الفقر والعشوائيات دون ابتذال بصري أو خطابية، بل توظفها بذكاء جمالي يجعل من كل لقطة قصيدة موجعة. الظلال، الألوان الباهتة، حركة الكاميرا التي تلاحق “توحه” بخفة وتختنق معها، كلها أدوات تُكرّس إحساس المشاهد بالاختناق لا بالنفور. لا وجود للصور النمطية عن البؤس؛ بل هناك إنسانية صافية، ناعمة، تُشبه لمسة يد طفلة تمسح الغبار عن وجه العالم.
اختارت جوهر أن تتحدث عن الطبقية لا كصدامٍ، بل كمسافة بين ابتسامة صادقة وابتسامة متكلفة، بين فستانٍ مُهترئ وآخر لامع، بين بيتٍ مكتظٍ بالرائحة والعرق وآخر تفيض منه العطور. الفيلم يضع المشاهد في موقع المراقب الصامت الذي لا يستطيع إلا أن يشعر بالعار من واقعه.
في قلب الفيلم تقف الطفلة دعاء رمضان “توحه” كظاهرة فنية نادرة، لا تملك أدوات الممثل المحترف، لكنها تمتلك ما هو أصدق” البراءة المؤلمة”. نظراتها، دموعها، نبرة صوتها، طريقة جلوسها أو ركضها في الشارع، كلها تحكي ما لا يمكن للكلمات أن تعبّر عنه. تُجسّد توحه مزيجًا من الطفولة والألم والكرامة، وتجعل المشاهد يشعر وكأنه يرى “الإنسان” في أنقى حالاته.
كل مشهد تؤديه يحمل صدى العالم كله من عيون الأطفال في الأحياء الفقيرة، إلى أحلام أولئك الذين يعملون بصمت من أجل الآخرين. لقد خلقت دعاء رمضان بأدائها الرائع من البساطة بطولة، ومن الصمت لغة، ومن التفاصيل العادية شعرًا بصريًا.

نساء من لحم ووجع
الفيلم لا يكتفي بتصوير الطفلة وحدها، بل يرسم عالم النساء المحيطات بها بدقة وحنوّ. حنان مطاوع تقدم أحد أجمل أدوارها كأم مصرية تعمل بيديها لتطعم أبناءها في قرية ريفية بسيطة. امرأة أنهكها فقد زوجها، وجمّدها الحزن حتى صارت آلةً بشرية بلا مشاعر. لكن جوهر لا تُدينها؛ بل تُظهرها كضحية أخرى لمنظومة تُقدّس البقاء وتنسى الحنان. في المقابل، نرى نيللي كريم في دور “ليلى”، السيدة الثرية التي تتأرجح بين التعاطف والنفاق الاجتماعي، فتُشبه المرآة التي تعكس قسوة الطبقة التي تنتمي إليها دون وعي.
كل شخصية هنا مرسومة بعناية، من نيللي الصغيرة التي تكتشف معنى الغيرة الطبقية للمرة الأولى، إلى صديق توحه الذي يقود التوكتوك، كفارسٍ شعبيٍ صامت يعيدنا إلى فكرة “المنقذ” في الحكايات الخرافية، لكن هذه المرة بلا نهاية سعيدة.
تُوظّف سارة جوهر أدواتها الإخراجية لتروي القصة من وجهة نظر الطفلة لا الكبار.الكاميرا منخفضة، قريبة من مستوى نظر “توحه”، ما يجعل العالم يبدو أكبر منها حجمًا وأكثر قسوة.الإضاءة متقشفة، كأن النور نفسه يعكس هشاشة الحلم.الموسيقى التصويرية التي وضعها مينا سامي تميل إلى الهدوء الحزين، تهمس أكثر مما تتكلم، وتنساب مع حركة الصورة في تناغم عاطفي مدهش.أما تصوير سيف الدين خالد فيمزج بين الواقعية والشاعرية، فهو لا يجمّل الفقر، لكنه يُضفي عليه مسحة من الاحترام والكرامة، وكأن الكاميرا تخشى أن تُهين الشخصيات بإفراطها في الشرح.
في عيد ميلاد سعيد، تبرهن جوهر على نضجٍ سينمائي استثنائي، إذ تعتمد على لغة بصرية هادئة تخفي تحت سكونها زلزالاً من المشاعر، وتُفضّل التعبير بالصورة على الكلمة. تتعامل مع الممثلين خصوصاً الأطفال بحسّ رقيق، فتستخرج من دعاء رمضان أداءً يفوق عمرها الحقيقي. بأعمالها، تؤكد سارة جوهر أنها لم تعد تكتفي بسرد الحكايات، بل تُعيد تعريف السينما كأداة للوعي الإنساني، وتجعل من التفاصيل اليومية مدخلاً لفهم العالم. إنها مخرجة ترى الحياة بعيون طفلة بسيطة، صادقة، ولكن قادرة على رؤية الألم في كل زاوية ضوء.
ما يجعل عيد ميلاد سعيد عملًا استثنائيًا هو أنه يتجاوز حدود القضايا المحلية إلى قضايا الأنسان في كل زمان ومكان، فقصة توحه ليست فقط حكاية مصرية، بل حكاية كل طفلٍ حُرم من الفرح، تغزل جوهر من تفاصيل بسيطة مثل، فستان، شمعة، كعكة، دمعة، نصًّا بصريًا يُخاطب الضمير الإنساني في كل مكان. إنه فيلم عن المساواة، لا كشعار سياسي، بل كحاجة إنسانية. عن طفلة تُدرك في لحظة أن العالم لا يُنصف من يحلم، لكنها رغم ذلك تُشعل الشمعة، لا لتتمنى، بل لتُذكّرنا بأن الحلم نفسه فعل مقاومة، وأن المساواة ليست ترفًا، بل حقًا فطريًا، وأن البراءة هي أول ضحايا الطبقية.
ينتهي عيد ميلاد سعيد بمشهد هادئ لكنه من أكثر النهايات صدقًا ووجعًا في السينما الحديثة.. بعد أن تُطرد “توحه” من الحفل الذي ساهمت في ترتيبه، تذهب والدتها لاصطحابها إلى المنزل. في طريق العودة، تحمل الطفلة بقايا كعك عيد الميلاد أو فتات الفرح الذي شاركت في صنعه ولم يسمح لها بتذوقه، فتجد الشمعة الصغيرة التي حلمت طَوال الفيلم أن تطفئها لتتمنى أمنيتها الكبرى: أن تصبح تلك العائلة عائلتها الجديدة.
لكنها لا تفعل، بل تجلس بجوار والدتها في صمتٍ طويل، كأنها تجاوزت طفولتها في لحظة واحدة. في تلك اللحظة، تدرك توحه، وربما نحن أيضًا، أن بعض الأمنيات لا تُقال، لأنها مستحيلة، وتكتفي بمشاهدتها تذوب أمامها.
تنهي سارة جوهر فيلمها على مشهدٍ يخلو من البكاء أو الصراخ، لكنه يظلّ في ذاكرة المشاهد كجرحٍ مفتوح، يذكّره بأن الطفولة ليست دائمًا براءة، بل أحيانًا وعي مبكر بالخذلان.