نقد

“روما” انتصار للسينما مؤكد بأهم الجوائز

نوار عكاشه

تلك المحفورة في أعماقنا بحنينٍ عظيم، تدق ناقوسها متى شاءت لتتصافى كَبوتقة الصائغ، ونستحضرها برجاء الأطفال الباحثين عن الهدوء والسكينة كلما أثقلنا الواقع لترفعنا إلى الأفق القصي، إنّها الذكريات، ينبلج نورها بالحقائق الصرفة التي عشناها زمناً ونعيش الآن مجهول مستقبلها.

يعود «ألفونسو كوارون» (1961) إلى تلك الحقائق، يستحضر الزمن الذي فقده ليعانق حضن الماضي ويقدم أحدث أفلامه «روما» (2018، 135د) محققاً بالبساطة انتصاراً للسينما والإنسان.

الذكريات هي مقاومة الذاكرة للزمن، يعود كوارون إليها ويصوغ من تاريخه الشخصي وخزينه الإدراكي معالجات حسية للتصريحية منها والضمنية، ذكريات طفولته بين عامي 1970 و1971 في الحي الذي كان يسكنه (روما) في العاصمة المكسيكية، تلك الفترة التي شهدت اضطرابات سياسية واقتصادية واعتراضات جماهيرية واسعة على حكم الرئيس «دياز أورداز»، أشار لها عدة مرات في سياق الفيلم وقام بتوظيف أحد أهم أحداثها في مشاهد ما قبل ولادة بطلة الفيلم في دلالة واضحة لمجزرة «كوربوس كريستي» 1971.

يجعل كوارون من تلك الفترة الزمنية خلفية لفيلمه ويشابكها بمتانة مع المنظور الدرامي والبصري في إسقاط وتقاطع سينمائي متفوق.

يقتحم ذكرياته بِمن كان الأكثر قرباً منه وتأثيراً عليه، فكان من الطبيعي أن تكون خادمة بيته الأرستقراطي «كليو» (ياليتزا أباريسيو) الشخصية الرئيسية في الفيلم، غنى الشخصية يتأتى من افتقارها، وهي حالة صادمة سينمائياً للوهلة الأولى، برود ورتابة أظهرها الفيلم في ساعته الأولى، واقعية شديدة باعثة للتوتر، لتتكشف لاحقاً تلك المراهنة على جعل اللاحدث هو الحدث في الفيلم.

 نقترب أكثر من الشخصية محاولين فهمها، نتساءل عن سر استسلامها للواقع والروتين المميت وعن جدوى الرغبات المكتومة وسط الانكسار والرضوخ، تفاصيل لمّاحة تظهر في الشريط لتجعل من الأشياء العادية صوراً انطباعية ذات دلالات مؤثرة (بقعة ماء تعكس السماء في بداية الشريط تمر عبرها طائرة، كلب موجود دوماً في البيت يحاول عبثاً الخروج كلما فُتِح الباب، سيارة كبيرة تعاني في ولوجها لِبهو البيت الضيق، قصص البعث والتقمص، شجرة تحترق وشخص غير مبالي، نجاة طفلة حديثة الولادة من الزلزال، حفلة للخدم تقام في الطوابق السفلية والدجاج في الاستقبال، الوقوف على رجل واحدة بعيون مغمضة، تكرر وجود الماء في عدة مشاهد طوال الفيلم …) 

تأخذ تلك التلميحات منحاً موازياً لحالة الخادمة، لا مجال للشكوى والتذمر بوجودها ضمن عائلة تحبها وتعتني بها، رضا وتسليم تام ومبرر ضمن جو حاضن لها وبغياب أي أحداث ظالمة من جهتهم تدفعها لتغيير وجهتها.
ولكن هل ذلك يكفي؟

يبدو مفهوم الحرية لتلك الشخصية مراعياً مدى امتنانها للمحبة التي قدمتها تلك العائلة لها رغم ما مرت به سيدة البيت من خيانة الزوج وضيق أحوالها المادية واضطراب حال أسرتها، ليبلغ الفيلم ذروته في مشهد حضن الخادمة والسيدة والأولاد لبعضهم معلناً أن المحبة تغني عن أي حرمان، مشهد تلاقي وجداني يلخص مفهوم العائلة وما تقدمه من تفاصيل حميمية، وفي هذا الانصهار تبدو الخادمة فرداً أساسياً من العائلة ومعرضاً مغايراً لتلك العلاقة التي لطالما تمت معالجتها من منطلق السيادة والتبعية.

لكن كوارون يبدو غير مكتفياً بذلك، فهو لم يُخلق للقبول بالبدائل عن الطموح، لذا يصعد في مشهده الختامي نحو السماء ملاقياً للطائرة التي ستأخذه نحو البعيد مودعاً مسرة استرجاع تلك الذكريات ليكمل واقعه الحالي.

الاحتفاء الحاصل بالمتعة البصرية التي قدمها الفيلم وتحقيقه جمالية وعودة لأصالة السينما ما كان ليتم لولا أساسه المتين بِشرطية الأسلوب، فالسؤال أولاً "هل يسترجع الإنسان ذكرياته بالألوان أم بالأبيض والأسود؟" في الواقع لا توجد إجابة محددة لهذا السؤال الذي شغل العلم مراراً وتكراراً، ولكن المؤكد أن عملية تركيب صور الذكرى الواحدة تتجاوز تلقائياً العناصر اللونية ما لم نتقصد تركيبها، وفي تركيبها جهد وتشتت للذاكرة، لذا كان من الأنسب حين صناعة فيلم عن الذكريات أن يُكتفى باللونين الأبيض والأسود، حيث أن ال monochrome   يخلق حالة تجرد من الزمن وشاعرية ملائمة لمنطق الذكرى، وهذا ما كان فيلم "روما".

ومن نفس المنطلق كان التصوير، بين foreground و background، ومع قليل من المشاهد القريبة؛ تبقى حركة panni camera غالبة على مشاهد الفيلم بعدسة 65 مم، كما الذكريات حين استرجاعها، عرض موسع يتجاوز النظرة، كشف تدريجي يجعل المشاهد شريكاً في مواكبة الدمج الصوري، تلك الملاءمة الذكية أصابت عدة أهداف؛ مفهوم الذكرى ومواكبة الحقبة الزمنية لأحداث الفيلم وإحياء أصالة السينما وبساطة بداياتها البصرية والدرامية.

يبدو واضحاً شغف كوارون بِدفء الماضي وحنينه الحميمي لتفاصيله، اشتغاله على الإضاءة يؤكد ذلك، تلاعب مدروس بدرجات الإضاءة وتوظيف دلالي للضوء وانعكاساته، يظهر ذلك جلياً في مشهد الاحتضان العائلي على الشاطئ (صورة ملصق الفيلم) حيث استعمل تقنية ال black light كَخلفية لمشهده في توظيف دال لأثر تلاقي العواطف الصريحة.

العودة إلى الموطن لاستعادة الشغف يتطلب العودة إلى الأصل بكل تفاصيله، ولفيلم يبطن الجمعي بِلبوس الذاتي وبدون حبكة تصعب المهمة، في «روما» برع فريق تصميم الانتاج في صناعة قالب تلك الفترة، وأعادوا إحياءها بعناصرها المكانية والزمانية بحرفية ملفتة، فاكتسب متانة الأساس لصورته.

وبغياب الموسيقى التصويرية لِشرط الواقعية؛ تربعت الأصوات الطبيعية وحوارات الشخصيات على شريط الصوت، يتفوق الفيلم بِمزج صوتي دقيق جداً في تواتر ودرجات أصوات الشخصيات والمحيط، فاستطاع بذلك إثراء تماهيه مع واقعيته وحالته السينمائية.

حقق الفيلم بتميزه الفني انتصاراً للسينما مؤكداً بأهم الجوائز، كما انتصاره لِجهة انتاجه وتوزيعه netflix التي حُرِمت تبعاً للجدل القائم حولها من عرضه العالمي الأول في مهرجان cann، لكن ما أهمية ذلك الحرمان أمام ما لاقاه الفيلم لاحقاً من مشاركات وجوائز أدخلته التاريخ بجدارة حين شارك في أكبر المهرجانات السينمائية الدولية (فينيسيا، تورونتو، نيويورك …) وحصد ما يراوح 100 جائزة حتى الآن. 

رقم ثمين جاء من مهرجانات ومؤسسات سينمائية ونقدية مرموقة؛ كان أولها جائزة الأسد الذهبي في عرضه العالمي الأول ضمن الدورة 75 لمهرجان فينيسيا، وأتبعها بأهم الجوائز ومنها جائزتي golden globes لأفضل إخراج وأفضل فيلم أجنبي، و 4 جوائز BAFTA عن فئات أفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل فيلم أجنبي وأفضل تصوير ، وليقف مؤخراً في المرافعة السينمائية الأكبر على جوائز الأوسكار 91 بعد 10 ترشيحات لها، حصد منها 3 جوائز مستحقة عن فئات أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية وأفضل إخراج وأفضل صورة سينمائية، ليؤكد أن السينما النقية باقية في الصدارة دوماً.
 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى