رأي

عزيزي بهاء طاهر.. أنا وأبطالك نشكو منك إليك!

محمد الزلباني

أستاذ بهاء طاهر

مساء الخير، وصباحِه، وعصرِه. الخير لك يا عزيزي في كل الأوقات.

أكتب إليك الآن وأنا في حالة تمكنني من ذلك، ربما لو فعلتها قبل عشرِ سنوات مثلًا، لارتعدت فرائصي بمجرد تذكري ما زرعته فيّ من قلق لازمني لأعوام!

لن أطيل عليك، سأقص عليك الحكاية من أولها.

ذات صباح شتوي، انقطعت الكهرباء في قريتي الريفية بمحافظة الشرقية، وهي عادة لم يمحُها تطور تكنولوجي، أو تغيُّر الحكومات، كلهم اتفقوا على تلك الفعلة، حتى باتت أمرًا معلومًا من الريف بالضرورة، ولم أجد ما يؤنس وحدتي، سوى التنقيب في كتبي اليسيرة آنذاك، واستخراج كتاب يعوضني عن عدم لعب الكرة في الأرض الخلاء التي صارت بركة من الماء بفعل المطر.

بهاء طاهر
بهاء طاهر

كنت صبيًا كليل النظر، ومن ثمَّ معدوم الإعجاب من قِبَل فتيات القرية، ورغم هذا كنت أميل للكتابات الرومانسية، فوجدت غلافًا يحمل عنوان “بالأمس حلمت بك”، ويعلوه اسم بهاء طاهر. إذًا، هذا كتاب عاطفي، وبالطبع سيثير بداخلي مشاعر تلهب الجسد المرتجف في تلك الليالي، وهو ما لم يحدث، فلم يكن كتابًا، كان عالمًا جديدًا دخلته قاصدًا الدفء، فخرجت منه بردانًا، قلِق الروح والعقل.

مرت سنوات والقلق الذي زرعته في روحي، ظل رفيقي في أيامي القاهرية الصعبة. أتيت المحروسة طامعًا في أن أصبح كاتبًا، ليس مثلك ولا كغيرك، ولكن كي أكون أنا. ثم سألت نفسي: من أنا؟ سامحني لو تجرأت وقلت: وجدتني أشبهك رغما عني!

حوار فاروق شوشة مع بهاء طاهر

زادت معرفتي بك وبمُنتجك وبسيرتك، فازداد يقيني بأن جُل أبطالك يشبهونك ويشبهونني؛ شرقيون بحكم النشأة، لكنهم يحلمون بمحو الرجعية، يحترمون العلم والتطور، ويعلمون أن صفاء الروح في البادية، يؤمنون بأن النجاح في هذا العالم يأتي بالاختلاط، لكن روح الصوفي بداخلهم تجرهم جرًا نحو الرهبنة. وأنا وأنت كل هؤلاء!

في واحدة من ليالي الاغتراب في القاهرة التي تعلمها جيدًا، لا أعرف ما الذي دفعني لترديد فقرتك البديعة في مجموعتك القصصية “بالأمس حلمت بك”: “إن الروح تغادر الجسد في بعض الأحيان، وتقوم ببعض الجولات. يحدث ذلك بالليل أثناء النوم، وإن لم يكن شرطًا. تلتقي الروح أحيانًا بأرواح شريرة، وأحيانًا بأرواح طيبة، ويحدث اتصال”. رددتها مرات ومرات، ولم يحدث أي اتصال. إنها الوحدة يا سيدي!

بهاء طاهر
بهاء طاهر

كانت ليلة صعبة يا أستاذ بهاء، ليتني كان معي الكتاب الصوفي الذي كان بين يدي بطلك لأغلقه وأنام هانئ البال. ومن أين تأتي الهناءة؟ فقد زارني المأمور محمود عبد الظاهر، وحدثني عن القلق الذي يساورني مذ وقعت في غرام كتاباتك، والشتات الذي بات ديدني، لدرجة أن أكثر البشر غباءً يصفني به فور التطلع إليّ!

قالي لي محمود عبد الظاهر: “لست وحدك القلِق. كل من عرف بهاء طاهر، يلقي بداخله هذه البذرة التي تنبت فتصير شجرة جذعها في سابع أرض، وفروعها تثمر شخوصًا تُجبر القارئ على التعاطف معهم، لأنه يرى نفسه فيهم. هل تعلم أن أستاذك بهاء طاهر، لم يكن يعرف عني سوى اسمي فقط، ونذر يسير عن حكايتي في “واحة الغروب”؟ لكنه لم يهدأ إلا عندما خلق لي الماضي المتشكك، والقلب الذي يتنازع على حجراته الخمر والجنس والحضرات الصوفية!”.

أويما 20 - Uima20 | عزيزي بهاء طاهر.. أنا وأبطالك نشكو منك إليك!
بهاء طاهر

حاولت تجفيف دمعه، فرفض، ثم استطرد: “بهاء جعلني نصف طيب ونصف شرير. نصف وطني ونصف خائن. نصف شجاع ونصف جبان. نصف مؤمن. نصف عاشق. دائما في منتصف شيء ما. تحمست فترة للوطن والثوار، وعندما جاءت لحظة الامتحان أنكرتهم ثم توقفت في مكاني. لم أكن أبدا شخصًا واحدًا كاملًا في داخله. صديقي طلعت كان أوضح مع نفسه. ما دام قد خان فليكمل الطريق إلى نهايته. باع نفسه وقبض الثمن الذي يريده. أما أنا فبعت بلا ثمن، وبقيت قانعا بالسخط على نفسي وعلى الإنجليز وعلى الدنيا كلها دون أن أعرف ماذا أريد. حتى الحب اكتفيت منه دائما بالمتعة ثم وقفت لا أكمل الطريق. وبعد كل هذا يا عزيزي أماتني مُنتحرًا”.

لا أعرف يا عزيزي، إن كان سبب اعتصار قلبي هو الشفقة على حاله أم حالي، لكني ذكّرته بأنك اخترت لنهايته راحة اليقين، ثم تَلوتُ عليه ما قلتَه أنت على لسانه في الرواية لحظة موته: “لم يكن هناك ألم، وتوهج فجأة نور في داخلي، نعم، الآن يمكن أن أرى كل شيء!.. أن أفهم كل ما فاتني في الدنيا أن أعرفه”.

ابتسم المأمور وتلاشى من أمامي.

ابتسامة بطل “واحة الغروب” حيرتني يا أستاذ بهاء؛ لكني في الصباح، تذكرت نفس الراحة التي بدت على بطلك الذي لم تُسَمِّهِ في “الحب في المنفى”، حين وصف مشهد نهايته بنفسه، كما فعل المأمور: “كنت أنزلق في بحر هادئ.. تحملني على ظهري موجة ناعمة وصوت ناي عذب. قلت لنفسي: أهذه هي النهاية؟ ما أجملها! (…) وكانت الموجة تحملني بعيدًا. تترجرج في بطء وتهدهدني.. والناي يصحبني بنغمته الشجية الطويلة إلى السلام والسكينة”.

في الختام؛ أحبك رغم ما زرعت فيّ من شجنٍ. أحبك حتى لو لم تكن أنت زارعه، يكفيك أنك عرفتني على حالي.

ابنك

محمد الزلباني

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى