نقد

عفوا.. لم نجدكم: تعظيم الرأسمالية على حساب الإنسان

 

محمد كمال

 

يقدم المخرج الإنجليزي الكبير كين لوتش صاحب الـ84 عاما اعتذارا جديدا لأبناء الطبقة الكادحة في القارة الأوروبية في أحدث أفلامه "عفوا لم نجدكم" وهي الترجمة المتماشية مع الأحداث حيث كتبت تلك الجملة على الورقة الخاصة بشركة الشحن التي يعمل بها البطل ريكي ويقوم بلصقها على الباب في حالة عدم وجود العميل المنوط به استلام الطرد.

 

حتى إن تم التطرق إلى معنى آخر كتب على تتر الفيلم بالعربية "نعتذر لأننا أغفلناك" وهي ترجمة صحيحة لغويا لكنها بعيدة قليلا عن الأحداث لكنه في كل الأحوال اعتذار من كين لوتش إلى ريكي وأسرته الذين سحقتهم الحياة الرأسمالية تحت وطأة البحث عن الرزق وتسديد الديون والعمل في ظروف قاسية بلا رحمة وبلا أي امتيازات عملية أو إنسانية، في غفلة من الأنظمة التي كرست مجهوداتها لتعظيم الرأسمالية على حساب حياة الإنسان.

 

أويما 20 - Uima20 | عفوا.. لم نجدكم: تعظيم الرأسمالية على حساب الإنسان

 

صورة مغايرة يقدمها لوتش دائمة لأحدى الدول العظمى في أوروبا عن طريق سيناريو بسيط لكنه شديد العمق، فصورة المواطن الكادح تظهر أكثر في أفلام تنتمي لأوروبا الشرقية مثل الروسي "بلاحب" والمجري “عن الجسد والروح" والروماني “التخرج"، لكن على مستوى أوروبا الغربية يعتبر لوتش من القلائل الذين يشغلهم تلك الطبقة المتوسطة التي في طريقها للتلاشي تلك الطبقة التي كانت تحدث توازن في الحياة بين الأغنياء والفقراء، الطبقة العاملة التي تحمل الإرث الثقافي وتحاول الحفاظ على مخزون القيم الاجتماعية.

 

أويما 20 - Uima20 | عفوا.. لم نجدكم: تعظيم الرأسمالية على حساب الإنسان

 

ارتكز فيلم "عفوا لم نجكم" على أربع شخصيات رئيسية هم أسرة ريكي الذي يبدأ الفيلم بإجراء مقابلة للتوظيف ويتضح أنه امتهن العديد من المهن لكن جاءت الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت أوروبا عام 2008 لتقلب الأمور رأسا على عقب، يوافق ريكي على شروط العمل التي في ظاهرها يعمل بحريته لكن في طياتها يخضع لشروط الاستبداد الرأسمالي وفق ضوابط محددة حيث يجني القليل ويعمل كثيرا ويحرم من الامتيازات وعلى النقيض يدفع غرامات كثيرة مقابل أي خطأ، ويختار ريكي العمل في شركة الشحن بسيارته الخاصة التي يقوم بشرائها مقابل بيع سيارة زوجته التي كانت تستخدمها للتنقل أثناء عملها.

 

تعمل "آبي" في رعاية المرضى وكبار السن عن طريق إحدى الشركات التي تحدد لها الأشخاص الذين يحتاجون، تعمل لمدة 14 ساعة يوميا صحيح هي تحب عملها لأنها شعرت بسعادة كبيرة عندما قامت برعاية والدتها لكنها في نفس الوقت تتعب فيه كثيرا وأصبح الأمر أكثر صعوبة بدون سيارة، وبالطبع تجني القليل، تلك الحياة القاسية نقلها لوتش ببراعة فالأسرة لا تجتمع أسبوعيا إلا في يوم واحد فقط بمجرد الدخول للمنزل يبدأون الاستعداد للنوم وأحيانا ينامون أثناء مشاهدة التلفاز للدخول في يوم جديد من العمل الشاق.

 

أويما 20 - Uima20 | عفوا.. لم نجدكم: تعظيم الرأسمالية على حساب الإنسان

 

 الابن سبستيان يتأثر بحياة والديه بشكل مباشر فهو في سن المراهقة يبحث عن التمرد على كل شيء حتى على أسلوب حياة والديه ويحتقر مهنة والده، يرفض الذهاب إلى المدرسة حتى يفصل، يتورط في سرقة متجر كبير، يحاول التعبير عن غضبه الداخلي وثورته الدائمة بالمشاكل، اختار الرسم على الجدران كنوع من التعبير والتنقيث عما بداخله من خلال تساؤلات حول معنى الحياة وجدوى العمل، يحاول بشتى الطرق ألا يكون مثل والده يعيش داخل الدائرة المفرغة لكنه لا يملك إلا الرسم الذي يعتمد من خلاله على تقديم صرخاته.

 

عكس شقيقته لايزا جين فهي مسالمة تهتم بعودة التقارب الأسري لكنها تعاني من الوحدة نتيجة غياب الأبوين المستمر ونتيجة شرخ الأسرة أصبحت تعاني من الاضطرابات وتحلم بكوابيس أثناء نومها فهي الأكثر تصالحا مع الوضع لكن هذا لأنها مازلت صغيرة وربما عندما تكبر وتتزايد احتياجاتها وتبدأ نظرتها تتكون تكون نسخة متمردة أخرى من شقيقها الأكبر.

 

أويما 20 - Uima20 | عفوا.. لم نجدكم: تعظيم الرأسمالية على حساب الإنسان
 

 

أسرة تكافح من أجل حياة عادية، تنتهك نفسيا وجسديا، تبدلت معها الأحوال تحولت من أسرة محبة مترابطة إلى أسرة تفتقد التواصل فالأب والأم في مفرمة العمل من أجل قوط اليوم وتسديد الديون، الأب غير متواجد في المنزل ولا يستطيع بسبب غرامات العمل أن يذهب إلى مدرسة ابنه لحل مشاكله.

 

الأم تكتفي بالتواصل مع أبناءها عن طريق الرسائل الصوتية للمحمول في المواصلات أو أثناء التنقل من عمل إلى عمل آخر حتى عندما تحلم أثناء نومها تجد أسرتها داخل حفرة عميقة من الرمال المتحركة، فخلال أحداث الفيلم لم تجتمع الأسرة وهم سعداء إلا مرة واحدة حتى عندما طلبت الأم لعمل مفاجئ اقترح الابن الذهاب معها بسيارة الوالد وهم يستمعون ويرددون الأغاني.

 

أويما 20 - Uima20 | عفوا.. لم نجدكم: تعظيم الرأسمالية على حساب الإنسان

 

اختار كين لوتش عملي الأب والأم بعناية ليغلف معهما الصورة القاسية التي يرغب في إبرازها، ريكي يعمل في توصيل الطرود دائم التنقل بسيارته لا يمنحه الفرصة حتى لاكتشاف موهبته أو الاحتكاك ببشر قد يساعدوه في تغيير نفسه فمقابلة العملاء تكون سريعة تقتصر على التسلم والتسليم، فلا مجال بتجربة شيء جديد أو الحصول على مغامرة تغيير حياته.

 

 والمرة الوحيدة التي دخل في جدال مع عميل كان أحد مشجعي فريق نيوكاسل الذي سخر من ريكي لأنه يرتدي زي مانشستر يونايتد ويدخل الثنائي في مجادلة كروية اختيارها مقصود أيضا من لوتش، فهي مجادلة من الماضي عندما كان الفريقان في المنافسة على الألقاب لكن الآن وضع الفريقان مذري فلم يعد مانشستر يونايتد مرعب أوروبا ولم يعد نيوكاسل الحصان الأسود في المنافسة، ريكي والعميل يعيشا على أمجاد الماضي ذكريات إريك كانتونيه مع الشياطين الحمر، وفترة المدرب التاريخي كيجان للفريق الملقب بالعقعق.

 

أويما 20 - Uima20 | عفوا.. لم نجدكم: تعظيم الرأسمالية على حساب الإنسان

 

أما "آبي" فاختار لوتش أن تعمل في رعاية المسنين الذين أغفلوا أيضا صحيح لم تغفلهم الدولة فهي توفر لهم كل عناصر التأمين والحياة لكن منسيون غير موجدين على خريطة عوائلهم أيضا تحت وطأة ظروف العمل القاسي الذي جعل الأبناء لا يملكون الوقت لرؤية آبائهم وتركهم لأشخاص آخرين، وتطرح إحداهن التي كانت مناضلة عمالية في السابق سؤالا.. ماذا حدث لدوام الثمانية ساعات؟

 

يتعرض ريكي للضرب والسرقة من اللصوص يتحطم وجهه من الكدمات وتقفل إحدى العينين فبدلا من أن يعتبرها إصابة عمل ويحصل على أجازة حتى يستعيد عافيته يجد نفسه محاط بغرامات جديدة، وفي أكثر المشاهد قوة على مستوى التنفيذ وتأثير من الناحية الإنسانية نجد ريكي المحطم جسديا يصر على قيادة سيارته وهو غير قادر ليتجه إلى العمل ولم تفلح محاولات الزوجة والابن للعدول عن القرار.

 

أويما 20 - Uima20 | عفوا.. لم نجدكم: تعظيم الرأسمالية على حساب الإنسان

 

ذلك النوع من العمل الذي يتحكم في البشر يفقدهم إنسانيهم ويحرمهم من أبسط أنواع الرفاهية مثل دخول المرحاض "صاحب العمل أعطى ريكي زجاجة ليتبول فيها"، ويستنزفهم والوضع أصبح أكثر قبحا مع التقدم التكنولوجي من خلال جهاز التتبع الذي يعمل به ريكي الذي يرمز له لوتش بأنه لا يتحكم في عمله فقط بل في مسار حياته بشكل عام، قسوة الرأسمالية دمرت التواصل الأسري حتى عندما حاول ريكي اصطحاب ابنته معه في العمل ليعوضها عن غيابه الدائم ولتساعده في خدمات التوصيل ورغم حالة السعادة "المؤقتة" التي انتابت الثنائي إلا أن صاحب العمل كان له رأي آخر.

 

أويما 20 - Uima20 | عفوا.. لم نجدكم: تعظيم الرأسمالية على حساب الإنسان

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى