رأي

غزة.. وماذا يعني أن تعيش مع الموت؟!

سمو حسام الدين

في غزة الآن وفي آونةٍ سابقة، كما في سوريا في وقتٍ سابق، وكل البلاد العربية التي تعرض الناس فيها للموت العشوائي بفعل الحرب والسلاح.

كل من تصل إليه الأخبار من خارج دائرة رحى الحرب يشعر بفظاعة الحدث وهوله أكثر بكثير من ذاك الموجود تحت النار والقصف.

ربما لأن الأمور من الخارج أوضح، أو لأن المسافة بيننا وبين الحدث تهبنا رؤية شاملة له تجعلنا ندرك فظاعته كاملة دون نقصان، وربما هو شعورنا بالعجز والتقصير يضاعف هول الأحداث.

وربما التعايش مع الموت، مع الواقع، أياً يكن فطرةٌ جبل عليها الإنسان..

أطفال غزة

 الكثير من الاحتمالات، والكثير من الأسئلة تغزو القلب والعقل، فهل من الممكن أو هل من السهل على الإنسان أن يتعايش مع احتمالية موته كل لحظة؟

وكيف – والحال كذلك- يستمر بالحياة وروتينه اليومي؟

قال مارتن لوثر كينغ مرةً أنه “لا يمكن أن يبقى الناس المقموعون على حالهم إلى الأبد، إذ أنَّ التوق للحرية يتجلى في نهاية المطاف”

فهل هذا مخاضٌ فلسطيني يوصلهم لتلك الغاية؟ وهل سر أهل غزة مستمدٌ من هذا القول؟

أطفال غزة

 المشاهد التي تصل إلينا من غزة وشوارعها المهددة بالقصف في كل لحظة، هذه الشوارع التي تضج بالتواجد البشري فيها تؤكد ذلك.

قد نفترض – نحن البعيدين عن خط الموت – أنه في مثل هذه الأوضاع سيقضي الناس أوقاتهم في الملاجئ أو أيِّ مكانٍ آمنٍ يترقبون فيه اللحظات التي تفصلهم عن الموت أو الهدنة، أو نصرٍ، أو تصالحٍ جديدٍ مع الحياة.

لكن الناس في فلسطين بكل فئاتهم نساءً ورجالاً وأطفالاً، يسجلون حضورهم في كل مسارح الحياة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فنراهم في المساجد والكنائس والشوارع وعلى أسطح المنازل وفي كل مكان.

حين يصبح الموت اعتياداً عادياً آخر يضاف إلى سلة الحياة ماذا يمكن أن تكون النتائج؟

وحين تفرض الحياة ظرفاً مكانياً يفرض شرط الاعتياد على ما يصعب الاعتياد عليه كيف سنتعامل معه نحن البشر؟

أطفال غزة

خليط بين الاعتياد والمقاومة

يقول الدكتور جون ليتش، وهو باحث في جامعة بورتسموث البريطانية، في دراسته حول “الوفاة النفسية” المنشورة على موقع “ساينس دايركت” العلمي أنه في كثير من الأحيان قد يتوفى الإنسان على الرغم من أنه مازال يتنفس، وذلك بسبب شعوره بالصدمة الشديدة من موقف ما في حياته، وهو ما يجعل درجة اللامبالاة لديه تتطور إلى أقصى درجاتها، فيتخلى عن الرغبة في الحياة.

ولكن هذا ليس ما نشاهده في غزة، إذ أنَّ الناس فيها حين اعتادوا التعايش مع الموت باتت الحياة لعبة، ولم يعد هناك من سبيل لهزيمتهم.

وعلى عكس ما تقول الدراسة، فإنهم مع هذا التقبل للموت أصبحوا أقدر على المواجهة، وكأنَّ كلَّ هذا الموت والظلم والعدوان زاد قدرتهم على التحدي واجتراح المعجزات.

إن اللامبالاة والاعتياد تحولا إلى نقاط قوة وعوامل انتصار!

فواقعهم المر جعلهم يتمتعون بفضيلة الشجاعة بأقصى درجاتها.

ولا بد أن عامل امتلاكهم للحق المسلوب يساهم في جعلهم أقوى. فالفطرة عند الإنسان أنه كلما واجه التحديات كلما زاد تصميمه على تجاوزها.

إدوارد سعيد حاملا وسيلته للرد على العدوان
إدوارد سعيد حاملا وسيلته للرد على العدوان

كما أن الإنسان مفطورٌ أيضاً على الاعتياد، بسبب حاجته الملحة للحفاظ على حياته وبقائه، وهو – مدفوعاً بالرغبة العميقة في النجاة – سيلجأ إلى التجاهل، وبمعنى آخر (الكبت) الذي يعتبر القاعدة التي تنبع منها معظم الآليات الدفاعية النفسية الأخرى.

ففي أوقات النكبات ينتهج الإنسان آليات دفاعية تختلف باختلاف موقعه من الحدث، فيعمل على إيجاد ملجأ معنوي يحميه من الموقف الذي لا يستطيع مسايرته في الوقت الراهن. منها دفاعات نفسية إيجابية وأخرى سلبية والتي يعتبر أبرزها لوم الآخر، أي إلقاء المسؤولية على شخص آخر، فهذا يضمن إزالة الواجب الذي يثقل كاهل شخصٍ ما وجعله مسؤولية أحدٍ آخر، وهذا يجلب ارتياحاً مؤقتاً، ولكنه في الواقع يزيد من المشكلات فهو يعقد علاقته مع الآخر، وبالتالي هو لا يحل المشكلة بل يزيدها سوءاً.

وكذلك يعتبر الاستجداء وانتظار العون من الآخرين من الآليات الدفاعية السلبية، مثلها مثل الانسحاب والهروب، فالمنسحب هو شخص سمح للمخاوف بالسيطرة عليه.

أطفال غزة

إذاً ما هي أفضل الطرق للتعامل مع الأمر؟

في مثل هذه الظروف يا ترى ما هي الحلول المتروكة للفلسطينيين في الأراضي المحتلة؟

لقد جسد الإعلامي وائل الدحدوح خير مثال على أفضل تعامل مع الحدث، إذ أبدى شجاعةً وتسليماً كبيرين، واستمر في العمل لنصرة المبادئ التي يؤمن بها.

ولا شك أن الأمر يختلف من شخص لآخر، تبعاً لمقدرته ووعيه وموقعه وغيرها من الفروق الفردية.

 من الواضح أن الناس في غزة قد طوروا طرق التعامل مع هذه الظروف التي تتكرر عليهم بين فينةٍ وأخرى. فجسدوا العديد من أشكال المقاومة فالاستمرار في الوجود مقاومة، والتسليم والتحمل مقاومة، ونبذ الاستسلام مقاومة، ومواجهة المخاوف مقاومة، والاعتماد على النفس في الدفاع عن الذات والأهل والأرض والحق أرقى أشكال المقاومة.

فهم كما قال هيراقليطس “مثل لهب النار يولد من موت شيء آخر. الموتى خالدون والخالدون موتى، الواحد منهم يعيش موت الآخر ويموت حياة الآخر”.

أطفال غزة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى