فتاة المصنع.. حين حررت إنانية الفارس «سندريلا»
ضياء مصطفى
في 2014، حين عُرض فيلم «فتاة المصنع» للمخرج الراحل محمد خان، كانت مصر ما زالت تشهد تبعات ثورة 25 يناير 2011، والحراك لم يكن سياسيًا فقط، ولكن كان اجتماعيًا أيضًا، وفي القلب من هذا الحراك كانت قضايا المرأة حاضرة وبقوة، وهو ما وظفه الفيلم نفسه، فبينما هيام «ياسمين رئيس» تغادر «جروبي» تجرّ أذيال الخيبة من الحبيب الذي تعلقت به، بعدما كانت قادمة بفرحة لقائه، تمرّ مظاهرة يهتف المشاركون فيها: «صوت المرأة ثورة».
الفيلم الذي عاد به خان وقتها، عقب غياب 7 سنوات، قدم أزمات المرأة داخل طبقة من المجتمع محاصرة بالفقر والجهل والعادات والتقاليد. بكل تأكيد حياة هيام وقصة حبّها للمهندس صلاح «هاني عادل» هي البطل الرئيسي للفيلم، ولكنه يقدم أيضًا صورًا مختلفة لسيدات من العالم نفسه الذي تعيش فيه هيام.

ولأن الأصل في قوة أي عمل هي الدراما وقوة شخصياته، ثم تأتي باقي العناصر التي تساعد هذه الدراما وتعبر عنها، فإن قوة «فتاة المصنع» الأولى تنبع من رسم الشخصيات في السيناريو الذي كتبته السيناريست وسام سليمان، ونجح في تقديم نماذج نسائية حية وواقعية معبّرة عن عالم يطبق على نسائه، كما تطبق البيوت على بعضها البعض داخل الحارة، حيث لا مجال للتنفس إلا بمقدار قليل يسمح فقط بالبقاء على قيد الحياة.
والفيلم كان ثالث وآخر تعاون جمع بين الزوجين وسام وخان، إذ سبقه «في شقة مصر الجديدة»، و«بنات وسط البلد»، ويمكن اعتبارها ثلاثية عن المرأة والحب والتمرد.
يوظف خان زاوية تصوير الكاميرا العليا في كثير من مشاهد الفيلم ليعبّر عن ضآلة حجم أبطاله، كما يصوّر أكثر من لقطة لهم من مسافة بعيدة لكي يظهروا صغارًا في هذه الحياة، وفي مشاهد أخرى يقرب الكاميرا في أماكن ضيقة للغاية، ليوضح الحصار الذي يخنق النساء.

بينما تتحدث نصرة «ابتهال الصريطي» إلى هيام لتخبرها عن وصول المهندس الجديد إلى المصنع، وتقبل هيام مسرعة لرؤيته، يلتقيان على سلم ضيق للغاية، هي في أسفله وهو في أعلاه، ليعبر خان عن سيطرة صلاح عليها مدفوعة بمشاعرها ناحيته منذ النظرة الأولى، وكذلك تفوقه عليها في السلم الاجتماعي وكذلك المادي، حتى لو كان هذا التفوق ضئيلًا للغاية.
وحين تغادر هيام منزل صلاح مقهورة بما فعلته الأم «ماجدة منير» إذ أعطتها 20 جنيهًا مقابل ما قدمته من اهتمام خلال فترة مرض المهندس، يصورها خان ضئيلة للغاية بجوار سور المترو، ويظهر جرافيتي لصورة سعاد حسني مصحوبًا بجملة «البنت زي الولد». وفي المشهد التالي يصورها أيضًا وهي في مساحة صغيرة من الكادر، بينما النجفة التي تنظفها في أحد البيوت التي تخدم فيها تحتل المساحة الأكبر منه، وتتهم هيام خالتها سميرة «سلوى محمد علي» بأنها عودتها على أن تكون خادمة. هؤلاء النساء رغم ما يعانين من قهر، فإنهن يمارسنه على بعضهن البعض، كما فعلت الجدة مع حفيدتها حين قصت شعرها.

تلعب سعاد حسني، التي أهدى إليها خان الفيلم، دورًا مهمًا في التعبير عن مشاعر هيام التي انتقلت بين أقصى الفرحة إلى أقصى الحزن والخيبة. فصوت سعاد كان حاضرًا ومعبرًا بفرحة وحزن عن بطلة الفيلم، وكذلك كانت حاضرة بدورها في «السفيرة عزيزة»، وقصة حبها المعقدة مع أحمد «شكري سرحان»، لتعبر عن تعلق هيام بالحب نفسه وعن حبها لهذه المشاعر ورغبتها في وجود رجل في حياتها، لكن عزيزة كانت أفضل حظًا في الحب من هيام.
وللمفارقة، فإن سعاد حسني قدمت فيلم «موعد على العشاء» مع محمد خان، وانتهى نهاية حزينة حين وضعت السم لحسين فهمي في المشهد الأخير واضطرت أن تأكل معه؛ انتصار بطعم الهزيمة. قتلته كرد فعل لكل ما فعله معها، لكنها ماتت معه. كانت تتحدث قبل لحظات من نهاية حياتيهما وهي جسد بلا روح، بينما هيام رقصت في مشهد النهاية في فرح صلاح على جثة براءتها وفروسيتها التي تعاملت بهما معه. صحيح أنها مكسورة حتى هذه اللحظة، لكن كل هذا الضعف بدأ في التحوّل إلى قوة وكبرياء. إذ لو امتد شريط الفيلم بعد الفرح، لكنا سنشاهد هيام غير التي عرفناها.

عملت مؤلفة العمل في مصنع حقيقي خلال كتابة الفيلم، لتعرف عالم المصانع وكيف تكون الحياة بداخله؟ وهذا ما جعلها تعبر عنه بشكل حقيقي وواقعي وتستخدم حوارًا معبرًا يشبههن. والرجل في أماكن العمل مثل المصانع التي تعمل فيها السيدات هو هدف لكل منهن: حياة جديدة بعيدة عن تحكم المشرفات والجلوس لساعات طويلة أمام ماكينات الخياطة، خاصة أنه من طبقة أعلى ولديه من المواصفات الجسدية والشكلية ما يجعله مثار تفاخر لمن تحظى به.
لا تَعِد الحياة تلك الفتيات بحياة وردية بعد الزواج، ولا يوجد أي نماذج جيدة للزواج في حياتهن، لكن الزواج ووجود الرجل هدف وغاية، عملًا بمنطق «هذا ما وجدنا عليه آباءنا». وإذا نظرت للفرق بين حياة عيدة، أم هيام «سلوى خطاب»، وشقيقتها سميرة، فهو فقط وجود الرجل في حياة الأولى. هما معذبتان في هذه الحياة، تعيشان حياة خانقة، تعملان من أجل كسب القوت، لكن الرجل في حياة الأولى، وهو نموذج جيد إلى حد كبير مقارنة بأقرانه في هذا المجتمع، يمثل أمنًا وحماية من ألسنة الناس، وحتى النساء أنفسهن. تقول سميرة لعيدة في شجار بينهما: «جوزِك معاكي».
تقف «عيدة» في بلكونتها تنتظر عودة زوجها للحارة، فيتهلل وجهها عند وصوله، رغم هامشية دوره في حياتها وحياة ابنتيها، لكن رغم هذا الدور المحدود فهو مثال حيّ لمقولة «أهو ضل راجل ولا ضل حيطة». هذا الضل الذي ربما لا يمثل فارقًا، بل بالعكس يزيد من الأعباء على المرأة، لكنه يظل في مفهوم هؤلاء النساء حماية من التعرض لهن أو التلاسن بسيرتهن. هذه السيرة التي إن مسّتها ولو شائعة بغير دليل —كما حدث في حياة هيام— تتحول إلى جحيم، أو تزيد من منغصات الحياة كما في حالة الخالة سميرة.

لا يقع الفيلم في فخ المباشرة ومحاكمة هؤلاء النساء، بل يقدم عرضًا معبرًا عن حياتهن، سواء عاملات المصنع أو هيام وعائلتها كنموذج. كيف يعشن على هامش هذه الحياة؟ محرومات من أقل الحقوق حتى الحد الأدنى من التعليم، وكيف تمارس العادات والتقاليد سلطتها عليهن؟ وماذا يمثل الرجل —مهما كان سيئًا— لهن؟ مستخدمًا حارة ضيقة وبيوتًا متلاصقة؛ تكاد تشمّ رائحة العطن من خلف الشاشة. لا ترى مثل هذه الحارات الشمس ولا يتجدد هواؤها، فيصبح كل شيء فيها عفنًا، ليس المكان فحسب، بل حياة من يعشن فيه أيضًا.
لم يكن صلاح الفارس على حصان أبيض الذي خطف السندريلا هيام من جحيم حياتها، لكنه نجح —من حيث لا يدري— بسلبيته وأنانيته وتخليه عنها في أن يحررها ويجعلها أقوى.
نشر في كتاب أفضل 25 فيلما مصريا في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، ضمن مطبوعات الدورة 46 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي.


