نقد

مولد يا دنيا.. أيقونة الفيلم الاستعراضي

حاتم حافظ

في وقت ما من التسعينيات عُرضت أغنية “طيب يا صبر طيب” التي أداها عبد المنعم مدبولي في كل برنامج تليفزيوني تخصص – أو لم يتخصص – في إذاعة الأغاني. الأغنية التي أُديت كما يجب أن يكون بدت كمعجزة لأن مؤديها لم يكن مطربا. المعجزة تضاعفت بالفعل لأن مدبولي – الممثل الكوميدي العظيم الذي قيل إن لديه مدرسة خاصة في الكوميديا عُرفت بالمدبوليزم – أدى أغنية شجية فطرت القلوب. تكرار إذاعة الأغنية فيما يبدو لي كان بمثابة خطاب نعي لزمن ولى ولن يعود. كان الزمن قد تغير كلية في التسعينيات، ولم يعد مألوفا لأي من الكبار الذين شهدوا التواريخ الكبرى والقضايا الكبرى وأيضا الأعمال الفنية الكبرى.

الفيلم الذي ضم الأغنية كان من الأعمال الكبرى التي جعلته – بسبب ما توفر له من جهد وجدية وإنتاج وفير – أيقونة للفيلم الاستعراضي الغنائي، خصوصا وأنه – وعلى عكس المعتاد في مثل هذه الجونرة فيما قُدم في مصر لسنوات طويلة – كان معنيا بالدراما عنايته بالاستعراض. الفيلم كتبه يوسف السباعي وهو ما وفر له أرضية أدبية رغم بساطة قصته. بإشراف فني لمحمد أبو يوسف صاحب التاريخ الكبير في كتابة السيناريو ومرسي جميل عزيز أحد أهم شعرائنا الغنائيين، والحقيقة أن وجود هذين الاسمين كمشرفين على الفيلم يوضح حجم الجدية التي عومل بها الفيلم أثناء التحضير له.

مولد يا دنيا

الفيلم شارك في كتابة أغانيه واستعراضاته كل من مرسي جميل عزيز (٥ أغنيات) وعبد الرحيم منصور (أغنيتان) ومجدي نجيب وسيد مرسي (أغنية لكل منهما)، فيما وضع الموسيقى كل من علي إسماعيل وبليغ حمدي ومنير مراد وكمال الطويل ومحمد الموجي، وطبعا كان لبليغ – مكتشف عفاف راضي – النصيب الأكبر بأربع أغنيات. الفيلم ضم تسع أغنيات وهو ما يجعله واحدا من أكثر الأفلام ضما للأغنيات في تاريخ الفيلم الاستعراضي المصري. وأخرج الفيلم حسين كمال أحد البارعين في إخراج الأفلام الاستعراضية ذلك الزمن، خصوصا بعد نجاحه في فيلم أبي فوق الشجرة.

مولد يا دنيا

تقول الحكاية الشائعة إن عبد الناصر نهاية الستينيات حين لاحظ تصاعد شعبية الفنانة فيروز طلب من بليغ حمدي تقديم صوت نسائي يشبه صوت فيروز. بليغ بحث عن الصوت ليكتشف في معهد الكونسيرفتوار صوتا عريضا لا يشبهه صوت، والمفاجأة أن صاحبة الصوت العريض الأوركسترالي والتي يمكنها غناء أغنيات فيروز ذات الطابع الغربي بسهولة يمكنها أيضا – بما لها من جذور ريفية – غناء الأغنية الشعبية والفولكلورية.

عفاف راضي كانت الصوت الأهم الذي قدمه بليغ والتجربة الأهم في ظني أيضا رغم نجاحه مع كل المطربين الذين عمل معهم، ودليلي على ذلك أن أغلب المطربين الذين عمل معهم بليغ كانوا مطربين ناجحين قبل التعاون معه (أم كلثوم وحليم وشادية وصباح وغيرهم) ولولا قرار عفاف راضي التفرغ للدراسات الأكاديمية لكانت المطربة الأهم في العصر الحديث.

مولد يا دنيا

عفاف راضي التي ولدت في المحلة الكبرى كانت لها ملامح ريفية لا يمكن إخطاؤها، ما جعلها لا تشبه أحدا من المطربين السابقين وتميزت عن الجميع ببعدها عن سمت نجوم السينما، ما أهلها أكثر من غيرها لتكون بطلة فيلمها الوحيد والذي حقق نجاحا كبيرا وامتد عرضه على الشاشات لمدة 30 أسبوعا كاملة. تصدر اسم عفاف راضي تترات الفيلم بعبارة “ولأول مرة على شاشة السينما” ما يعكس النجاح الفني الذي حققته خلال سنوات قليلة سبقت إنتاج الفيلم الذي جاء استثمارا لهذا النجاح.

الفيلم عن مخرج مسرحيات استعراضية يقرر الابتعاد عن القاهرة تخلصا من غرور فرقته وبيروقراطية القائمين عليها، لكنه حين يذهب للريف يفاجأ بعدد من الموهوبين بالفطرة فيقرر تكوين فرقة جديدة بمشاركتهم بعد تدريبهم، لكن للأسف فهؤلاء الموهوبين ما هم إلا حفنة من اللصوص والنصابين الذين يعملون لدى زعيم عصابة جاهل. هم أيضا بخلاف ذلك حفنة من الفقراء. الفيلم رغم تقديمه منتصف السبعينيات زمن الانفتاح الاقتصادي فإن القائمين عليه – والذين انتموا بالطبع لعصر عبد الناصر – طبعوا الفيلم وقصته بأفكار تشبه ذلك العصر، فالسؤال الدرامي الذي طرحته القصة ما إذا كان الجانب الطيب من الناس سوف ينتصر أم لا، ويتفرع عن ذلك السؤال الأساسي أسئلة أخرى: ما دور الظروف الاجتماعية في حياة البشر، وما إذا كان الإنسان قادرا على الترقي بقدراته الذاتية فقط، وما الدور الذي يمكن للتنظيم الاجتماعي أن يقوم به لتحسين شروط الحياة.

مولد يا دنيا

يمكننا معرفة تمايز هذا الفيلم بمقارنته بالأفلام من النوع نفسه. انتشرت الأفلام الاستعراضية الغنائية في مصر بكثافة كبيرة فترة الأربعينيات بالذات وأغلبها استلهم الفودفيل المسرحي الذي ينتشر دائما فترات الحرب وما يعقبها، لذلك يغلب على تلك الأفلام النزعة إلى التسلية، باستخدام البهرجة والموضوعات المكررة المضمونة (استعراض الدول مثلا تكرر في أغلب تلك الأفلام باختلاف نجومها من محمد فوزي لفريد الأطرش) وفي فترة الخمسينيات والسيتينيات يلاحظ أن أغلب الأفلام – على قلتها مقارنة بعقد الأربعينيات – غلب عليها برجوازية الطبقة الوسطى (غرام في الكرنك – أجازة نص السنة – أبي فوق الشجرة كمثال).

فيما جاء فيلم مولد يا دنيا ليقدم فرقة ريفية، وبمقارنة مولد يا دنيا بفيلم مشابه بعض الشيء مثل أضواء المدينة نكتشف أيضا تمايز الأول بهذا الملمح، ففي أضواء المدينة تأتي فرقة تمثيل من طنطا لتغزو القاهرة، لكن فرقة مولد يا دنيا لم تبرح مكانها، وربما لعب مرسي جميل عزيز دورا في ذلك إذا ما عرفنا أنه كشاعر غنائي شهير ومهم ظل مخلصا لبلدته والبقاء فيها طوال حياته لدرجة أن عبد الحليم في بداياته حين رغب في التعرف عليه سافر له بصحبة محمد الموجي.

وجود مرسي جميل عزيز كمشرف على الفيلم فرض بيئة موحدة فنيا على الفيلم فرغم تعدد كتاب الأغاني مثلا فيمكننا ملاحظة أن القاموس اللغوي المستخدم تشابه إلى حد كبير (رغم تنوع خلفيات الكتاب المنتمين إلى الدلتا والصعيد)، مرسي جميل عزيز الذي كتب في يوم في شهر في سنة مثلا له من الأغنيات الشعبية ما لا يمكن تخيله، وربما – وهذا مجرد تخمين – كان له دور في اختيار الشعراء المناسبين.. القاموس الموحد شعرا توازى مع القاموس الموسيقى أيضا فرغم تنوع الملحنين وخلفياتهم وحتى أذواقهم الشخصية هناك روح مشتركة بين كل الألحان ويمكن أن ننسب هذا الفضل لفرقة صلاح عرام التي نفذت الألحان والتي كان لصاحبها دور في التوزيعات الموسيقية إضافة إلى علي إسماعيل الذي رغم عدم ذكر اسمه في هذا السياق فإن شخصيته الموسيقية يمكن الشعور بها.

الطبيعة الريفية الغفل التي شكلت بنية الفيلم انعكست – وهذا يحسب للمخرج – في حركة أجساد الممثلين التي غلب عليها الفوضى (وهي فوضى منظمة بالطبع) وهنا يمكن مقارنة حركة أجساد الممثلين/ الراقصين في بداية الفيلم وفي نهايته لمعرفة المجهود الذي بذله كل من محمود رضا وحسن السبكي ليمايزا بين رقصات فرقة لم تتلق تدريبا وفرقة خضعت لتدريب مكثف.

لكل هذه الأسباب يمكن القول باطمئنان إن فيلم مولد يا دنيا أحد أهم الأفلام المصرية في تاريخها، وأحد أيقوناتها ومحطاتها المهمة خصوصا بين أفلام الاستعراض والغناء.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى