نقد

وداعا جوليا.. الحرب بين أيدي النساء

مصطفى الكيلاني

بعد لحظات من بداية عرض فيلم “وداعا جوليا” ستغرق تماما في تفاصيله، منى وجوليا وجب عليهما أن يتصادقا رغم الثارات المتراكمة، وتلك هي المعضلة التي أوقعتنا جميعا في شباك ما صنعه المخرج محمد كردفاني، الذي يعرض فيلمه في مصر، كأول فيلم سوداني يعرض في قاعات تجارية مصرية.

تقع الأحداث بداية في يوم مقتل جون قرنق، الضلع الأول في حرب تحرير جنوب السودان، وقائد تلك الحركة التي استخدمت السلاح للحصول على تقسيم السودان. زوجين علاقتهما متوترة، منى زوجة تعودت الكذب في أبسط الأشياء، معظم لقاءاتها وحديثها مع زوجها أكرم في المطبخ، أو غرفة النوم. في علاقة زوجية فاترة تماما.

وداعا جوليا

“منى” تعشق الاستماع لفرقة تقدم موسيقى الجاز، في أحد الكافيهات بالعاصمة الخرطوم، ترتدي النقاب حتى لا يكتشفها أحد، وفي طريق عودتها للمنزل تخلع النقاب أثناء قيادتها للسيارة، فتصدم طفلا ويطاردها والده الجنوبي الذي لم يشارك في الاضطرابات التي أحدثها الجنوبيون في الخرطوم بعد مقتل “قرنق”، ويصل خلفها لمنزلها فيخرج زوجها “أكرم” ويقتله.

تنشأ عقدة ذنب لدى منى وتحاول معرفة مكان أهل القتيل، وتستقطب زوجته “جوليا” وابنها للعمل في منزلها، وتنشأ علاقة صداقة بينها وبين جوليا التي نكتشف أنها تعلم بتسببها في مقتل زوجها لكن لا تستسلم لرغبة الانتقام طمعا في مستقبل أفضل لابنها الذي تيتم مبكرا.

وداعا جوليا



لم يحاول المخرج والسيناريست محمد كردفاني إلا صناعة فيلم بسيط جدا، إنساني لأقصى حد، تحركت خلاله الموسيقى التصويرية لمازن حامد بسلاسة، وكأنها طرف رئيسي في الحدث، مع اختيارات رائعة للأغاني، ساهمت بشكل كبير في غوص المشاهد عميقا في العلاقات داخل الفيلم، مثل الترنيمة المسيحية وكيف كانت فاصلا في علاقة منى برغباتها في الزواج والحياة، واستخدام الآلة النحاسية السودانية مع العود في مشاهد النهاية، وكأنها تعبير عن حالة السلم التي وصلت إليها منى، وحالة الحرب التي سيخوضها دانيال في الجنوب.

وداعا جوليا



علاقة الكذب الواضحة من منى لأكرم، تقابلها عدم الثقة من الزوج في زوجته، سمحت لجوليا بالتواجد داخل ذلك المنزل الواضح انهياره من المشهد الأول، وفتحت لابنها مجالا لكي يعوض الأب عن غياب الطفل، مع أن أكرم يتعامل مع “دانيال” باعتباره العبد الجنوبي الذي يجب أن يتحول لعامل لا لدارس في مدرسة راقية كما ترغب منى التي حاولت تعويضه. وجوليا التي تدعم حلم منى في عودتها للعمل كمغنية خلافا لرغبة أكرم، تصنع كذلك حالة من التوافق في ذلك المنزل الذي أصابته لعنة القتل فكان مصيرهما الانفصال في النهاية.

اعتمد كردفاني على الكاميرا الثابتة، لم يحاول أن يقدم إبهارا في الصورة بقدر ما حاول أن يقتحم مشاعر بطلتيه، صنع من اللقطات المقربة ألفة بين المشاهد ومنى وجوليا ودانيال وأكرم، وأدار ممثليه بحرفية شديدة، ولو خفض قليلا وقت المشاهد ذات الحوار الطويل، لكان فيلمه قارب على الكمال. الحرب في فيلم “وداعا جوليا” ليست في الخارج بين الجنوبيين والشماليين، فحتى مشاهد العنف لم يقدمها كردفاني، إنما أشار إليها من خلال مشهدين فقط، ولم يقدم فيهما مشاهد دموية، ولكن الحرب كانت داخل المنزل حول التعصب والعنصرية المتأصلة في عقل الزوج أكرم، الذي واجه زوجته بعنصريتها، وواجهه القائد الجنوبي بما فعله، وكان “الصفع” على وجهه نهاية كل تلك الحرب الداخلية في المنزل.

وداعا جوليا



وداعا جوليا حظي بسيناريو متماسك في معظمه، عابه فقط المشاهد الحوارية الطويلة التي كان من الممكن قصها قليلا، وخاصة في علاقة الاهتمام التي تتطور بين جوليا والقائد الجنوبي، وكان أفضل ما فيه علاقة منى بالغناء، حلمها القديم المتجدد، الذي يرفضه أكرم، وتصر عليه في النهاية، ويكون ختام الفيلم بأغنية النهاية “قول لي كيف” من كلمات محمد حامد، وألحان مازن حامد، غناء إيمان يوسف “منى”، ونايل.

ديكور المنزل كان قديما، من الأثاث الذي كان منتشرا في خمسينات القرن الماضي، معبرا عن تلك العائلة المرتبط فيها الزوج بأفكاره القديمة، التي ورثها عن أبيه وشاركت أمه في اختيار تفاصيله حتى ستائره، وحرمت زوجته من المشاركة في اختيار أي شيء فيه، فكانت دائما غريبة، لم تشعر بالأمان وبأنها تمتلك شيئا في ذلك المنزل إلا بوجود “جوليا” بجوارها، فكان الأمان بالنسبة لها هو حديقة المنزل وغرفة جوليا وابنها دانيال.

كذبت منى على الجميع، أكرم وجوليا ودانيال والجار وأصدقاءها في الفرقة، وصدقت فقط في احتياجها لـ”جوليا”، التي كانت يدها دائما هي التي تخفف عنها وطأة الخوف والحرب والغياب، “منى” كانت تملك سرعة بديهة في الكذب، ولكنها في النهاية فشلت في الاحتفاظ بصديقتها الوحيدة، واحتمت بالغناء لتواجه فراقها عنها.

وداعا جوليا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى