“أعدني إلى المنزل” وفلسفة عباس كياروستامي السينمائية
كاظم مرشد السلوم
أحد الأفلام المهمة التي عرضت في مهرجان دبي السينمائي الـ13، فيلم قصير للمخرج الكبير عباس كياروستامي، صاحب الأفلام والجوائز الكثيرة، وصاحب الاهتمام العالمي الأكبر بين المخرجين الإيرانيين، يأخذنا فيه الى الجنوب الإيطالي، حيث البيوت تبنى على سفح جبل، ولا سبيل للوصول اليها سوى سلالم عديدة بآلاف المدرجات، تنحني يميناً وشمالاً، لتصل في النهاية الى البيوت التي في القمة أو الى أسفل المرتفع حيث الشارع العام.
بإمكان البشر صعود القمة بالتأكيد، سواء أكان هذا للتحدي كما هو حال متسلقي الجبال أم هي غاية الوصول الى البيت أم العمل، كذلك يتمكن الحيوان من ذلك، فكثير منها يصعد الى القمم، والطيور تبني اعشاشها هناك، ولكن ماذا لوكان الذي يفترض أن يصعد الى أعلى منزله الواقع في قمة الجبل جماد، لا روح فيه، صادف أن تدحرج من أعلى بيت في القمة الى حيث الشارع العام، من يعيده، وأين سيكون مصيره، وكم واحداً منا فقد إصرار وحيوية الصعود الى القمة ثانية، لهذا السبب أو ذاك، ويحتاج مساعدة كبيرة لكي يصعد ثانية.
أحاول هنا قراءة تأويل النص المرئي لهذا الفيلم القصير 16 دقيقة، صبي يسكن في اعلى بيت من البيوت التي ترتفع فوق بعضها على سفح جبل، في الجنوب الإيطالي، طراز متشابه، لون ابيض يوحدها، يدخل البيت بعد أن يضع كرته خارج باب منزله الخشبي، يغلق الباب، تتحرك الكرة نازلة على السلالم، تقطع مسافة من هذه السلالم، يلحقها الصبي، يأخذها ثانية، يغلق الباب، فتتدحرج الكرة ثانية، لتصل في النهاية الى الأسفل تماماً، هنا يصل الصبي ليلتقطها ويصعد السلالم، وصولاً لبيته، هذه المرة يدخل الكرة معه الى داخل المنزل.
خلال رحلة النزول التي تستغرقها الكرة من أعلى الى الأسفل، نشاهد سلالم مختلفة ، ساعد اللونان الأسود والأبيض للفيلم على توحيد لونها، سلالم بعضها قذر، والآخر اكلته الرطوبة، وبانت عليها اثار الزمن، الجدران كذلك، مختلفة درجة حداثتها، وكذلك مختلف درجة نعيم من يعيش خلفها، وبالتالي فإن الفارق الطبقي واضح، لا أحد يمر على هذه السلالم، فقط قطط وبعض كلاب سائبة، كأن لا حياة هنا في هذه البيوت، لا وجود لأيّ أصوات بشرية، فقط مؤثر الجو العام، أصوات طيور وريح، ما الذي حصل لهذه البيوت من يعيش خلفها، ما هو مستواهم الاقتصادي، كل ذلك تجيب عنه السلالم والجدران، الكرة تقودنا الى مشاهدة كل ذلك دون ملل، لـ16 دقيقة نبقى نتابع كرة تتدحرج نزولاً من اعلى السلالم الى اسفلها، كاشفة لنا الحيز الذي تشغله السلالم والجدران المحيطة بها فقط، لينتهي الفيلم بأن يلحق الصبي كرته ويعيدها الى المنزل .
ماذا لو أصبح حالنا حال كرة مطاطية اغلق الباب دونها "باب البيت أو باب الوطن أو باب الصحة ونحول الجسد" من سيساعدنا في العودة الى المنزل، ربما تجد الكرة من يعيدها كونها وسيلة تسلية، لكن ماذا عنا، ونحن لم نعد نصلح لا للتسلية ولا للمتعة ولا للعمل، هل سنبقى مثل كرة صبي عباس كياروستامي نتدحرج ونتدحرج، وصولاً الى الأسفل "القاع" دون اهتمام، ودون صبي يعيدنا الى المنزل. كم منا بحاجة الى صبي يجد متعة وتسلية في إعادة العاجزين الى بيوتهم، او إعادة المطرودين والمهجرين اليها، وأين تجد مثل هذا الصبي، في زمن كثر فيه عقوق الأبناء، وأين تجد الحبيب الذي يدفعك الى تسلق القمم لأجله.
وضع عباس كياروستامي فلسفته الفنية السينمائية هذه التساؤلات في 16 دقيقة، تقطع فيها كرته الرمز الطريق من اعلى سلالم بيوت في جنوب إيطاليا الى اسفلها، فاضحاً الفارق الطبقي من خلال شكل ونوع السلالم وتباين درجة ألوان الجدران ونظافتها. هل ربما جاءت فلسفته في هذا الفيلم بعد أن قرأ وهو المولع بالفلسفة والاطلاع على التصوف ما قاله جلال الدين الرومي:
أنا ثمل وأنت مجنون فمن ذا الذي يقودنا إلى المنزل
لقد نصحتك مائة مرة أن تقل من الشرب كأسين أو ثلاث
في المدينة لا أرى شخصاً واحداً صاحياً من السكر
كل امرئ أسوأ من الآخر ولهان ومجنون
أي حبيبي! هلم بنا إلى الخربات حتى ترى لذة الروح
وكيف يطيب للروح أن تكون بدون صحبة الحبيب.