أكثر من رأفت الميهي (2-6)
أسامة عبدالفتاح
على المستوى الوطني، تولى الرئيس المخلوع حسني مبارك الحكم في عام عودة الميهي إلى السينما، وبدأ فترة حكمه بإشارات اعتبرها المثقفون –ومنهم السينمائيون– إيجابية، ومنها الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإعلانه رغبته في ألا تزيد مدة حكمه عن فترتين، ورفضه النفاق والمنافقين.
وانعكس التجاوب معه في تخلي السينما المصرية عن أفلام الهزل وتصفية الحسابات التي كانت قد سادت في السبعينيات، ومحاولتها النزول إلى الواقع للتعبير عنه، فظهر ما سمي بعد ذلك – مع تحفظي شخصيا على التسمية – "الواقعية الجديدة"، وصعد نجم عدد من المخرجين المتميزين، سواء الذين بدأوا في الثمانينيات أو قبلها بسنوات قليلة، مثل عاطف الطيب ومحمد خان وداود عبد السيد وخيري بشارة وسمير سيف، وشهد عقد الثمانينيات صناعة عدد من تحف وكلاسيكيات السينما المصرية.
وعلى المستوى الشخصي، اتخذ الميهي في بداية الثمانينيات قرار الاتجاه للإخراج إلى جانب التأليف والإنتاج، ليصبح -في المرحلة الثانية من مسيرته السينمائية- أحد فرسان "الواقعية الجديدة" وأحد أبرز وجوهها.. ويبدو أن القرار كان استجابة للتحولات السياسية والاجتماعية من حوله، ولتحولاته الشخصية التي فرضت عليه أن يعبر عن أفكاره وآرائه في تلك التطورات بشكل أكثر حرية ووضوحا.
وكنت سألته – في حوار أجريته معه ونشر في "الأهرام المسائي" بتاريخ 30 يوليو 1995 – عن أسباب تحوله للإخراج، فرد قائلا: "هذا تحول طبيعي جدا لأن معظم المخرجين قادمون إما من السيناريو أو من المونتاج.. طبيعي أن (سكة) السيناريو توصل إلى الإخراج.. وأيام كنت كاتبا للسيناريو فقط، كان الناس يقولون عنى إنني (مشروع مخرج) لأنني كنت أكتب الفيلم كاملا بكل تفاصيله على الورق.. ثم أنى في لحظة ما شعرت برغبة داخلية في أن أمتلك قيادة سفينتي وان أميل إلى التعبير الذاتي في أفلامي وأن أقدم رؤيتي الخاصة التي يصعب على المخرجين الآخرين أن يقدموها.. وذلك رغم أنى لا أشكو من المخرجين الذين عملوا معي على الإطلاق، فقد قدموا جميعا أفلامي كما كتبتها على الورق تماما".
تمتد المرحلة الثانية من مسيرة الميهي من 1981 إلى 1987، وخلالها أصبح "صانعا للأفلام" يكتب وينتج ويخرج، وقدم ثلاثة أفلام مهمة لا يمكن إغفالها، سواء في تيار الواقعية الجديدة أو في تاريخ السينما المصرية بشكل عام.. فقد عرض عام 1981 فيلم "عيون لا تنام"، أولى تجاربه الإخراجية، مستوحياً السيناريو من مسرحية "رغبة تحت شجرة الدردار" ليوجين أونيل، غير أن الفيلم مختلف تماما عن أحداث وأجواء المسرحية الأمريكية، حيث قدم الميهي معالجة جديدة لهذا العمل الأدبي الشهير، وغيَّر في الأحداث وفي بناء الشخصيات وعلاقاتها. وعن ذلك قال: "أنا مسئول عن نص (عيون لا تنام) من أوله إلى آخره.. فأنا لست ناشراً، ولا أعيد نشر رواية، بل أتناولها وأكتب وجهة نظري الخاصة".
أضفى الميهي نكهة ملحمية على فيلمه الأول كمخرج، وحمّله أفكارا تعتمد أساساً على الرغبات المرتبطة بالطبيعة الإنسانية، ومنها الشهوة، والطمع، وحب التملك. ولكنه قدمها بعيون ناقدة ومتفهمة لمدى خطورة هذه الرغبات، فهي عندما تسيطر على الإنسان تحطمه وتقضي عليه.
وبعد 17 عاما كاملة من بدء مسيرته، شهد عام 1983 أول موعد للميهي مع الكوميديا التي ارتبط بها وارتبطت به فيما بعد طويلا، وإن كان الفيلم الذي بدأ به مشواره معها –"الأفوكاتو"– ينتمي إلى ما يمكن اعتباره "كوميديا سوداء"، حيث يتناول بسخرية مريرة مجتمع الفهلوة والشطارة المادي الذي أفرزته سياسة الانفتاح الاقتصادي، من خلال المحامي الألعبان "حسن سبانخ" (عادل إمام) الذي يحاول التأقلم مع أوضاع السجن أثناء قضائه عقوبة الحبس لمدة شهر بسبب إهانته المحكمة في إحدى القضايا.
يتمكن "سبانخ" من إقامة العديد من علاقات البيزنس البهلوانية أبرزها مع تاجر المخدرات حسونة محرم، وسليم أبو زيد أحد مراكز القوى في الستينيات، ويلعب على جميع الحبال، ويبدأ في تحريك النظام القضائي وأوضاع المجتمع المقلوبة كعرائس الماريونيت. ينجح في إخراج حسونة محرم من السجن "زي الشعرة من العجين"، وإعادته لواجهة المجتمع مرة أخرى، ليس من أجل "سواد عيونه" ولكن تمهيداً لقيام "سبانخ" نفسه بالنصب على حسونة في "خبطة العمر"، حيث تضمنت خطته دخول المستشفيات والاتجار في العملة، وتزويج شقيقة زوجته لحسونة، إلا أن الأخير ينجح في الإيقاع بالمحامي البهلوان وإرغامه على دخوله السجن.. ولأن سبانخ لاعب أكروبات، فإنه سرعان ما يستأنف نشاطه من داخل أسوار السجن، متحالفاً مع سليم أبوزيد في عملية جديدة وحياة "ملتوية" جديدة.
"الأفوكاتو" كانت رؤية الميهي الساخرة لمجتمع ما بعد الانفتاح، والتي أتبعها برؤية ميلودرامية شجية لمجتمع الثمانينيات في فيلمه الجميل "للحب قصة أخيرة"، الذي يعتبره الكثيرون –وأنا منهم– من أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية.. ورغم أنه يُصنف ضمن أبرز أعمال ما يسمى بتيار الواقعية الجديدة، إلا أنني أرى أنه ينتمي أكثر إلى الواقعية السحرية، بفضل أبعاده الروحية والميتافيزيقية، والأجواء الغامضة الساحرة لجزيرة الوراق التي تدور فيها أحداثه، وأسلوب تنفيذه تقنيا، ومعالجته دراميا ليصبح مزيجا من العلاقات الإنسانية المتناقضة، ومن الحب والكراهية، الحياة والموت، الوضوح والغموض، الصدق والزيف، الصحة والمرض، الخرافة والعلم.