أنا وحميد.. قصة أوتوجراف على قميص زائر الفجر (1-2)
مصطفى حمدي
(1)
لا تثق دائمًا في أصدقائك المجانين، ولا تفوت فرصة مشاركتهم بعضًا من جنونهم، في الثالثة فجرًا اتصل بي صديقي الملحن الشاب. أيقظني بجملة واحدة: "إلبس وانزل أنا مستنيك تحت بيتك!".
بعد دقائق كنت في سيارته الفيات 128 نقطع الطريق من المهندسين نحو كوبري أكتوبر، البرد في شتاء سنة 2001 أشبه بموجات كهربية تضرب أعصاب أطرافك، ولكن هذا الصقيع لم يكفي لإطفاء فضول مشتعل في النفس، وحماس في صوت صديقي الباحث عن فرصة التلحين لأي صوت شاب، فما بالك لو فاز بموعد مع حميد الشاعري؟
قال بتوتر واضح: أنا مصدقتش انه لسه فاكرني، كلمته من كام ساعة فقالي أروحله على الأستوديو الساعة 3 ونص!
حتى الأن لم أعرف سبب النص المضاف على الساعة الثالثة فجرًا، ولكن المسافة من المهندسين إلى ستوديو أم ساوند في ميدان تريومف في مصر الجديدة، لم تستغرق أكثر من 20 دقيقة بسيارة منتهية الصلاحية كادت تنقلب بنا في ملفات كوبري أكتوبر المرعبة.
يعرف صديقي كم أحب حميد، كنت أسعى للقاء الرجل الذي نَحَت ذوقي الموسيقى وشَكَّله بألحانه وتوزيعاته وأغنياته عامًا بعد الآخر، في مراهقتي لم أملك عرابًا، أو بمعنى أسهل صديقًا أكبر مني سنًا، عادة مايلعب هذا الدور واحدًا من أبناء العائلة الأقرب سنًا، الخال الأصغر أو العم، وربما معلمًا في المدرسة.
على النقيض كنت أرى في حميد أبا روحيًا لمراهقتي، لم أمتلك في مرحلة ماقبل الإنترنت سبيلًا للاقتراب منه سوى شرائط فيديو مصورة لحفلات الجامعات، كنا نؤجرها من نوادي الفيديو بالساعة، فيما كنا نرى حميد زعيمًا لحركة تعيد صياغة تفاصيل حياة الشاب المصري بداية من الموسيقى التي يسمعها وصولًا إلى الظهور بـ"التريننج سوت" الذي أصبح زيًا رسميا لشباب المرحلة.
وصلنا في الموعد المحدد، على باب الأستوديو عرفنا من الأمن أن حميد في انتظارنا، كانت بداية مبشرة لاستقبال لائق، هؤلاء المشاهير لا يهتمون عادة بمواعيد هامشية يمنحونها لأصوات باحثة عن فرصة أو ملحن مبتدئ يبحث عن شهادة ميلاد فنية، فقط حميد كان ومازال حريصًا على احترام تلك النعمة، نعمة الأخذ بيد الآخرين، بينما يراها هو دين يسدده للقدر الذي جعل أحد أصدقائه يفتح له باب النجاح.
عام 1980 تقريبا كان حميد قد عاد من لندن إلى القاهرة لاستكمال دراسة الطيران، رحلة لندن في الحقيقة لم تكن فرصة لمنح عبدالحميد علي الشاعري شهادة لقيادة الطائرات بقدر ما منحته مساحة للتعرف على أحدث التطورات في مجال الموسيقى، وهناك سجل عددًا من الأغاني التي كانت ورقة اعتماد له أمام المنتجين في مصر، أحد أصدقائه وهو الموسيقي وحيد حمدي –عازف بفرقة أبناء أفريقيا- تبرع وأعطى المنتج هاني ثابت شريطًا يضم بعض الأغنيات لحميد.
أعجبت ثابت التجربة وتعاقد مع الشاعري على ألبومه الأول "عيونها" والذي كان عملًا عائليًا تقريبا شارك في تلحينه وغنائه مجدي وحسين وفهمي الشاعري، بمساعدة ناصر المزداوي، وغلبت اللهجة الليبية على الألبوم خاصة وأن أغلب أغنياته كانت من الفلكلور الليبي، ولهذا فشل الألبوم فشلًا ذريعا، قال عنه حميد ساخرًا: "إن عدد النسخ المرتجعة منه فاق ما تم طباعته من نسخ أصلية !".
(2)
في استراحة الأستوديو تناولنا كوبين من الشاي، وجلس صديقي يدندن على الجيتار حتى خرج لنا "الكابو"، بدى عليه الإرهاق، عينان حمراوتان ولحية كستها شعيرات بيضاء، ولكن ابتسامته الواسعة ظلت حاضرة وهو يرحب بنا: "يا هلا ياشباب.. اعذروني أنا مطبق بقالي يومين".
فهمنا رغبته في سماعنا دون أن نطيل عليه، عزف صديقي لحنًا أعجب حميد الذي نصحه أن يغير الكلمات بأخرى أكثر بهجة: "انت عامل جملة موسيقية حلوة.. عايزة كلام يعبر عنها"، ثم عزف لحنًا آخر فصفق له وأشعل سيجارة ثم قال: سمعني تاني.
سلطن اللحن حميد وقرر أن يرشحه لأحد الأصوات الشابة التي يتبناها، وعرفنا ليلتها أنه قارب على الانتهاء من تسجيل ألبوم جديد لمجموعة من الأصوات الشابة، قال له: "لولا أننا قفلنا الشريط كنت خدته وغنيته، بس تتعوض انت ملحن شاطر جدا"، بعد عام صدر الألبوم يحمل اسم "ميوزيك ناو" وقدم من خلاله حسام حبيب، وهيثم شاكر بأغنيته الشهير "أحلف بالله".
امتدت الجلسة وغنى صديقي وعزف وشاركه حميد غناء أقرب أغنياته إلى قلبي "عودة"، أو كما يسميها الكثيرون "في سكوت"، استند بظهره وعاد معي بالزمن لسنوات بعيدة، وفجأة شاركني الغناء وصديقي يعزف على الجيتار.
"عودة" أحد أهم أغنيات الكابو، أجدها حتى الأن تتصدر قائمة تفضيلاتي في "ساوند كلاود"، سمعتها لأول مرة في صيف 1992 ضمن أغنيات ألبوم "كواحل" آخر ألبومات حميد قبل إيقافه من نقابة الموسيقيين برئاسة الموسيقار صلاح عرام لثلاث سنوات، وهذه قصة أخرى لاتقل غرابة عن الخدعة التي فعلها حميد ليفوز بالأغنية من ملحنها مصطفى قمر.
يحكي كاتب الأغنية الشاعر سامح العجمي: "كنا في الأستوديو نتابع تحضيرات ألبوم مصطفى قمر الجديد "لياليكي"، وكالعادة كان حميد مشرفًا موسيقيا على الألبوم وموزعًا لأغنياته، سمع حميد الكلمات فأعجبته جدًا، وبعد قليل دخل مصطفى وقال له أنه لحنها وسيضمها لألبومه ".. هل انتهت القصة؟