أوجاع البشر وأحلامهم عبر العالم في “الجونة” الخامس
الدورة الأنجح رغم الحرائق والخلافات
صفاء الليثي
ولأن العبرة بالخواتيم جاء حفل افتتاح مهرجان الجونة هادئا وراقيا، وملخلص كامل التوفيق لدورة ناجحة بأفلامها وتنظيمها وفعاليات منصتها، مسح حفل الختام كل ما أثير من مشكلات، والبداية بتحية سميح ساويرس مؤسس مدينة الجونة لعمال أوراسكوم ممن أصلحوا المسرح الذي اندلع بمسرح المارينا قبل الافتتاح بيوم، نالوا تصفيقا فاق الحاصلين على الجوائز على حد قوله.
كما قدم نجيب ساويرس مؤسس المهرجان تحية لوالده في أول دوره لا يكون موجودا فيها لرحيله، وباسمه قدم جائزة سينما من أجل الإنسانية للفيلم الوثائقي “أوستروف جزيرة مفقودة” الذي حاز أيضا على نجمة الجونة الفضية في مسابقة الوثائقي. وكان النجاح الثالث لكلمة مدير المهرجان انتشال التميمي الذي قدم فيه التحية لشركائه في العمل باتزان واحترافية كما أعلن عن موعد الدورة القادمة وكانت كلمته تعني الكثير وتقطع كل الشائعات.
تقدم الأفلام بانوراما لأوجاع البشر عبر العالم، وجع الدول الفقيرة والتي تمر بأزمات اقتصادية، ووجع البشر ومشاكلهم في العالم الأول. الحياة ليست وردية في أي مكان ولا مجال لأفلام التسلية. الهندي ” ذات يوم في كلكوتا ” فيلم ينتمي لواقعية معاصرة بعيدا عن بوليوود وزيفها، ينطلق من مشكلة تخص سيدة ماتت طفلتها الوحيدة ولا تجد سكنا رعم أن والدها أورث أخاها غير الشقيق منزلا ودار عرض قديمة، هو معاق وستنتهي حياته بمأساة، يعرج الفيلم على شخصيات فاسدة تؤثر على حياة الأفراد وتعكس أزمة الأنظمة الرأسمالية الباحثة عن الربح.
اللبناني “كوستا برافا” معبر عن الحالة اللبنانية الراهنة حيث تزحف النفايات على المنازل الجميلة، قادت المخرج مونيا عقل أبطالها ببراعة وخاصة الطفلة ومن قامت بدور الجدة، نال الفيلم جائزة نجمة الجونة الخضراء لأفلام تتناول مشاكل البيئة كما نال جائزة لجنة الفيبريسي أيضا. النرويجي بعنوانه المثير “أسوأ شخص في العالم” تعاني بطلته من أزمة وجود، والبطل الناجح يصاب بالسرطان مرض العصر ويزيده هجر حبيبته له اكتئابا يعجل بموته.
قسم المخرج فيلمه إلى فصول عناوينها مشوقة، تمثيل البطلة بارع سبق لها الحصول على جائزة أفضل ممثلة في كان وتوقع متابعو الجونة أن تحصل عليها من لجنة تحكيم الجونة التي انحازت لتمثيل الطفلة بطلة ملعب للمخرجة السويسرية في عملها الأول، ركزت المخرجة أحداث فيلمها في ملعب المدرسة من الفسحة، كما ركزت على الطفلة التي تعاني من تنمر زملاء المدرسة ضد أخيها الذي يعاني مشكلة، ومن تنمرهم ضدها.
المخرجة بدأت بمشهد تبكي فيه الطفلة ولا تريد أن تترك أخيها ونتصور أنها ضعيفة ولكن يتبين أنها تريد حمايته، مشكلتي الوحيدة مع الفيلم عدم منحنا معلومات كافية عن هذه المدرسة التي يصعب تصديق أنها في بلد أوربي، المدرسة أقرب لمدرسة في بلد فقير يعاني من أزمات اقتصادية، والأطفال يحمل بعضهم أسماء عربية أو أوربا شرقية، فهل المدرسة في حي يضم أغلبية من المهاجرين، بعيدا عن نقص المعلومات نجحت المخرجة في عرض مشكلة تنمر وانتهت الى فاجعة أن الصبي المضطهد وجد حلا كي لا يتم ضربه بانضمامه الى مجموعة الأشقياء وتنمره على اسماعيل، فتى غالبا من أصل عربي ضعيف البنية.
وفي ” ملعب”، في الفسحة يعاني تلاميذ صغار من تنمر زملاءهم ويفشل المدرسين وتفشل الإدارة في حماية هؤلاء الأطفال وتأتي النهاية فاجعة اذ يتحول الصبي المضطهد إلى عضو في المجموعة التي تتنمر على الضعفاء ويجد أن هذا هو الحل الوحيد لكي ينقذ نفسه من الضرب اليومي ومن خوفه الذي يجعله يتبول على نفسه. جائزة نجمة الجونة لأفضل ممثلة (نجمة الجونة وشهادة) ذهبت إلى الممثلة الطفلة مايا فاندربيك عن دورها في فيلم “ملعب”.
أداء الطفلة كان بارعا استحقت عنه جائزة أفضل ممثلة متفوقة على غيرها من البطلات الكبار. وفي فنلندا يتعرض الرجل الذي أصابه العمى كمضاعفات لمرض في عضلاته، يتعرض لتنمر من أشقياء ولكنه يقاوم ببسالة مدفوعا برغبته في لقاء حبيبته التي تعرف عليها عن طريق الانترنت من خلال مكالمات صوتية فقط. المخرج تعامل مع ممثل أصابه مرض شبيه بالبطل وأصابه العمى كما بطل الفيلم، الكاميرا قريبة جدا من وجه الرجل، هو فقط في البؤرة أما ما حوله في منطقة ضبابية كما يراها الأعمى فاقد البصر ولكنه لم يفقد البصيرة كما يقول في الفيلم للسارق المدمن الذي فشل في سحب أمواله من كارت البنك لتمسك البطل بالدفاع عن حقه.
حصد الفيلم جائزة نجمة الجونة الذهبية للفيلم الروائي الطويل (نجمة الجونة وشهادة و50000 دولار أمريكي) ذهبت إلى فيلم “الرجل الأعمى الذي لم يرغب بمشاهدة تيتانيك” للمخرج تيمو نيكي، التركيز على بطل واحد في لقطة قريبة سبق مشاهدته في فيلم “مذنب” الذي شاهدناه بالجونة أيضا منذ سنتين وحاز اعجابنا والجوائز.
أما الفيلم الروسي “هروب الرقيب فولكونوجوف” “فيعود الى الماضى في حقبة صورها النظام في أفلامه الدعائية التي تتغنى ببطولات الجيش الأحمر، ويعرض الفيلم لجرائم تقوم بها الفرق الخاصة في هذا الجيش بتعذيب وإعدام للكثيرين كإجراء وقائي تحسبا لأي خيانة أو ارهاب يقوم به هؤلاء، وأغلبهم مخلصين لعملهم المفيد حقا للبشر وللوطن.
حصل الفيلم على نجمة الجونة البرونزية ومشكلتي معه في العرض السادي لممارسات النظام القمعي في روسيا السوفيتيه، وما وجدته تناولا من وجهة نظر تنفي تماما بطولات الجيش الأحمر المعروفة ضد النازي في أسلوب سينمائي يقترب من السينما الأمريكية بمبالغات في رسم الشخصيات والهجوم السافر على الحقبة الشيوعية.
حصد الفيلم جائزة نجمة الجونة البرونزية وشهادة و15000 دولار أمريكي) ذهبت إلى للمخرجين ألكسي تشوبوف وناتاشا ميركولوفا، وأفضل عليه فيلم “أنا عدت يا أمي” الروسي خارج المسابقة الذي ينتقد روسيا النظام الأوحد وروسيا المعاصرة معا، يفضح الفيلم حقيقة شركات توظيف عسكرية لشباب كجنود مرتزقة منهم ابن أهم سيدة في البلدة يتوظف ابنها في شركة عسكرية خاصة ويحارب في سوريا ويختفي هناك، يمنحونها مبلغا من المال ونياشين غير رسمية.
ترفض الأم التسليم بوفاة ابنها وتبحث عنه فيحضرون لها متطوع آخر يدعي أنه ابنها حتى لا تستمر في البحث الذي يفضح تجاوزات كبيرة، كل هذه الأحداث تتم بينما هناك محاولة لترميم منزل قديم قيل إن ستالين ومن بعده خروشوف وبريجينيف قضوا فيه أجازات وهناك فكرة لجعل البيت من التراث ولكن يتبين أنه غير صالح للترميم، رمزية البيت الذي لا يصلح ترميمه في وقت يتم فيه الكشف عن أوضاع مأساوية تخص بطالة الشباب وتعريضهم للموت في حروب كأجراء ووضع الأم التي فقدت ابنا وفكرت في النهاية في تقبل الابن المزيف كتعويض عن ابنها المفقود.
من خلال أداء عظيم للممثلة في دور الأم والابن المزيف وهو ممثل نجم له فيلمين آخرين بالجونة في مصادفة غير مقصودة رشحه النقاد لجائزة أفضل تمثيل ولكن بطل “الرجل الأعمى” الممثل بيتري بويكولاينن حازها وأوافق اللجنة على ذلك. حصل على جائزة نجمة الجونة لأفضل ممثل (نجمة الجونة وشهادة) ورغم الجدل الذي انتشر هل الممثل أعمى فعلا أم يمثل دور الأعمى، وسواء كان أعمى فعليا أم لا، فانه قام بدوره ببراعة مؤثرة دعمها المخرج باقترابه من وجهه وإظهار تعبيراته بوضوح بينما كل تفاصيل الصورة حوله مبهمة وخارج البؤرة.
في كمبوديا يهدمون بناية يعيش فيها فقراء كل في مساحة لا تزيد عن 40 مترا أو نصفها، ويتم منحهم تعويضا ضئيلا لا يعوضهم عن سكنهم المتواضع في المبنى الأبيض. بطل الفيلم الشاب حاز جائزة التمثيل في فينيسا ولا أجده يستحقها، لاحظت دوما الانحياز الى كمبوديا والتعاطف معها سوا في عرض معاناة شعبها مع الشيوعيين والخمير الحمر، أم الآن في أوضاعهم المعاصرة التي لم يحسنها منح الغرب ولا تعاطفه.
يجد صناع الأفلام من واجبهم أن يعبروا عن الإنسان الذي يعاني سواء بسبب الأنظمة أو بسبب الأمراض التي تتزايد نتيجة تلوث البيئة، أو بسبب الأنظمة الاقتصادية التي لا يهما سوى تحقيق أعلى ربح على حساب الاستغناء عن موظفيهم كما في الفيلم الفرنسي “عالم آخر”.
وأهم ما حدث ما يخص فيلمنا المصري “ريش” الذي جاء الهجوم عليه في صالحه وحتى التسريب الذي وسع دائرة من شاهدوه واشترك عدد كبير من مثقفي مصر ومواطنيها في التعبير عن رأيهم بالفيلم وتحول مهرجان الجونة إلى منصة عامة تدعم فن السينما وتعزز التواصل بين محبيها وتمحو كل الصغائر التي ذهبت أدراج الرياح.
وهكذا يأتي التركيز على معاناة البشر فكرة أساسية في كل الأفلام الفنية التي اختبرت في مهرجانات كبرى مثل برلين وكان وفينيسا، وجلبها فريق الجونة انتشال التميمي وأمير رمسيس ومعهم المبرمجين لعرضها في الدورة الخامسة لمهرجان يبعث الطمأنينة في نفوس المشاركين به لأنهم سيشهدون أهم أفلام العام في عروض منظمة كلها مترجم للعربية.