الجوكر.. اكتشف كيف تصنع الوحوش
آية حرزي
بعد سلسلة الأفلام الكوميدية الناجحة هانج أوفر، جاء لنا المخرج تود فيلبس بفيلم إثارة نفسية “الجوكر”، من بطولة خواكين فينيكس، ويتناول قصة أرثر فليك الشاب القبيح المتهور غريب الأطوار الذي يسير بالشوارع متنكرا بزي المهرج يمارس العنف ويثير الشغب بالمدينة، يعكر صفو المجتمع المسالم ويضحك يشكل هستيري طوال الوقت ويسبب وجوده الإزعاج لكل من حوله ممثل مغمور ومجرد شخص فاشل لم يستطع أيجاد مورد رزق ثابت لتأمين حاجياته، غيور من المجتمع، نخبته النيرة ونجومه اللامعين، هكذا يصفه توماس واين السياسي البارز والمرشح لرئاسة البلدية المهتم بخدمة المجتمع وتحسين ظروفه.
فعلى عكس المجتمعات بالعصور الغابرة التي يسودها التمييز بين العبد والسيد والأبيض الأسود المجتمعات الحديثة مجتمعات تسودها الحرية والمساواة وتعتبر هذه القيم ركائز أساسية لها مجتمعات يتمتع أفرادها بنفس الفرص والإمكانيات للوصول لأهدافهم وتحقيق ذواتهم وتعتبر ممارسة العنف تصرفا يتناقض بشكل جذري مع مبادئها الأخلاقية وتمثل هذه الفكرة أحد أهم المعتقدات الراسخة بأذهان الأغلبية وتعتبر من البديهيات لكن أثناء متابعة الفيلم تتبادر الأسئلة إلى أذهاننا واحد تلو الأخر هل نحن فعلا متساوون؟
قد يصح هذا إلى حد كبير على مستوى القوانين والتشريعات لكن فعليا وعلى أرض الواقع ماذا عن النساء والسود والفقراء وغيرها من الفئات الهشة والمهمشة هل يحظى الأفراد المنتمين إليها بنفس الفرص التي يحظى بها غيرهم؟ وما الذي يجعل شخصا نحيفا شبيها بآرثر فليك يبدو قبيحا هل المسألة فعلا مجرد ذوق شخصي أم أن هيمنة نماذج معينة على الأفلام والإعلانات والبرامج … حولت هذه المواصفات لمعايير للجمال يجب أن تكون المرأة نحيفة ويجب أن يكون الرجل مفتول العضلات فأصبح أي شخص لا تنطبق عليه هذه المعايير يبدو قبيحا بنظر المجتمع.
ففي حقيقة الأمر أرثر فليك ليس سوى شاب يفعل كل ما بوسعه لإيجاد مورد رزق نشأ بدون أب بظروف اجتماعية قاسية، وابن محب يبذل قصارى جهده للاعتناء بوالدته المسنة والمريضة، وممثل لم يتمكن من إبراز موهبته، أما ضحكه الغريب فيعود لمعاناته من اضطرابات نفسية ويتعرض للتنمر باستمرار لهذا السبب.
نواجه من خلال ما يمر به بطل قصتنا من تجارب مريرة وصدمات متتالية وخيبات أمل متعاقبة حقيقة الانحدار الأخلاقي الهائل الذي تشهده مجتمعاتنا وتدهور العلاقات الإنسانية وتحولها من علاقات تقدم للفرد ما يحتاجه من دعم واهتمام ليتمكن من بناء صورة إيجابية عن ذاته وحب نفسه وبالتالي تقديم الحب للأخرين لعلاقات قائمة على الخداع والنفاق والتلاعب بالأخرين فصديقه المقرب يتظاهر بمساعدته ليورطه ونجمه المفضل الشخص اللطيف والمحبوب منافق يتظاهر بالإعجاب به ليحوله لمادة للسخرية والتندر فتدفعه كل هذه المواقف القاسية لليأس ويتحول يأسه تدرجيا لغضب جامح وحقد أعمى على المجتمع يؤدي لتورطه بجرائم قتل مروعة فيتحول القتل إلى الطريقة الوحيدة لإثبات الوجود بالنسبة إليه
لا يقدم الفيلم تبريرا للقتل والوحشية بل يدق ناقوس الخطر للتوعية بالعواقب الوخيمة للتجاهل التام لفئات هشة على المستويين الاقتصادي والنفسي من قبل جميع الأطراف الدولة والمجتمع والإعلام هذه الفئات التي يقدم نموذجا لها من خلال شخصية بطله وحياته التراجيدية الشبيهة بالمسرحيات الإغريقية.
تعتبر شخصية توماس واين نموذجا يبرز الانفصال الكبير للطبقة السياسية عن الواقع تمثل القصة الغرامية التي يعيشها أرثر فليك مع جارته النقطة المضيئة الوحيدة التي تخفف بعض الشيء من قتامة الفيلم وقسوة أحداثه ليتبن في النهاية أنها لم تكن سوى وهم من صنع مخيلته وحيلة دفاعية اخترعها عقله ليخفف عنه وطأة ضغوط الحياة.
أما القطرة التي أفاضت الكأس فقد كانت اكتشافه أن المرأة التي كرس حياته للاهتمام بها ليست والدته وتعرضه خلال طفولته للتعنيف وسوء المعاملة من قبلها نظرا لمعاناتها من مشاكل نفسية مما يفسر إلى حد كبير حالته الصحية الحرجة لينتهي العمل بشكل مأساوي بقتله لها.
اكتفى تود فيليبس بأعماله السابقة بالتركيز على الجانب الترفيهي وتقديم أفلام ممتعة ومسلية وهذا لا يقلل من أهمية تلك الأعمال ولكنه قرر أن يتحدى نفسه بتجربته الإخراجية الجديدة ونجح بتحقيق معادلة صعبة تقديم فيلم عميق يحرض المشاهد على طرح أسئلة محورية جريئة وإعادة النظر بالقناعات الراسخة ويتضمن نقدا لاذعا لاتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء من ناحية وتقديم قصة ممتعة لشخصية لطالما تابعناها بعدة أفلام من ناحية أخرى.
ويختلف هذا العمل بشكل جذري عن الأعمال السابقة لمخرجه على عدة مستويات:
أولا: الألوان على عكس الأعمال السابقة التي اتسمت بسيطرة الألوان الفاتحة التي تبعث البهجة والحماس لعبت الألوان الغامقة كالأخضر والأصفر والأزرق دورا محوريا برفع درجة التوتر وتعميق الشعور بالكأبة والتشاؤم لدى المشاهد وبالتالي تعميق انغماسه الذهني في القصة وتماهيه مع بطلها.
ثانيا: نوعية اللقطات المستخدمة بأغلب مشاهد الأفلام استخدم المخرج بأفلامه السابقة اللقطات المتوسطة فقد كان الهدف من المشاهد تقديم سلسلة المواقف المتعاقبة الطريفة والمضحكة أما بهذا الفيلم فقد استخدم اللقطات القريبة للتركيز على تفاصيل شخصيته الرئيسية بالإضافة لبعض اللقطات الواسعة لإبراز هامشيتها بالمدينة الضخمة.
ثالثا: الإيقاع مقارنة بالأعمال السابقة يعتبر الفيلم بطيء نوعا ما ولا يعود هذا لعيب في العمل بل لخيار قام به المخرج ليتيح للمشاهد الفرصة للتركيز على تفاصيل الشخصية وأبعادها السيكولوجية هذا وقد أحذت مسيرة خواكين فينيكس نسقا تصاعديا وشهدت تطورا هائلا فبعد تقديمه لأداء جيد جدا بفيلم (هي) يعود بفيلم الجوكر لتقديم أداء أسطوري لشخصية مركبة ومعقدة تنطوي على عديد التفاصيل والمشاعر.
ويذكر أن بطل العمل قام بدراسة عميقة للاضطراب النفسي الذي تعاني منه الشخصية بالإضافة لخسارته ل 25 كيلوغرام ليتمكن من تقمصها وقد فاز عن جدارة بجائزة الأوسكار عن فئة أفضل ممثل وعلى صعيد أخر ساهمت الموسيقى التصويرية المؤثرة للفيلم بإثرائه والتعبير عن أجوائه وهذا ما يفسر فوزها بالأوسكار كأفضل موسيقى تصويرية لعام 2020.
ويقول خواكين فينيكس بهذا الخصوص إنها المرة الأولى التي تؤثر فيها موسيقى تصويرية لعمل بطريقة أداءه لشخصية إلى هذا الحد.
يعد الجوكر ملحمة تراجيدية وتحفة فنية ويقدم لمحبي سنيما تجربة مدهشة ستبقى بذاكرتهم دائما.