السينما الجزائرية بين حقبتين.. مسار مرزاق علواش نموذجا (1-2)
عبد الكريم واكريم
كانت السينما الجزائرية في بداياتها ولحدود السبعينيات من القرن الماضي إحدى أهم السينمات الوطنية في إفريقا والعالم العربي. وذلك بتناولها لقضية الثورة والتحرر من الاستعمار في العديد من أفلامها وبمواكبتها لنهضة وبناء المجتمع الجزائري بعد الاستقلال ومحنة الاستعمار التي دامت لأزيد من 130 سنة بأساليب سينمائية طليعية آنذاك. لكن سرعان ما ستعرف هذه السينما نوعا من النكوص والتراجع عن زخم بداياتها خصوصا بعد أن رفعت الدولة يدها نسبيا أو كليا من الدعم الذي كانت تمنحه لها وعن كونها منتجا وحيدا ورئيسيا للأفلام.
فأفلام ك "الليل يخاف من الشمس" لمصطفى بديع، "فجر المعذبين" (1965) لأحمد راشدي، "ريح الأوراس" (1966) و "حسن الطيرو" (1968) لمحمد لخضر حامينة، "الطريق" (1968) لمحمد سليم رياض، "الخارجون على القانون" (1969) لتوفيق فارس وأفلام أخرى مُماثلة كانت عبارة عن أشرطة صَوَّرَت قضايا الثورة ومعاناة الشعب الجزائري من أجل الحصول على الاستقلال، وسيأتي فيلم "وقائع سنين الجمر" سنة 1975 لمحمد لخضر حامينة كتتويج لهذه النوعية من الأفلام لينال جائزة السعفة الذهبية بمهرجان كان، لتكون الجزائر أول بلد عربي وإفريقي ينال مثل هذه الجائزة الرفيعة، وتُكَرَّسَ السينما الجزائرية حينها كإحدى أهم سينمات العالم الثالث، خصوصا كنموذج لسينما التحرر والنضال ضد المستعمر وبناء مجتمع إشتراكي.
ومع بداية عقد السبعينيات ستظهر نوعية أخرى من الأفلام الجزائرية ستتناول القضايا الآنية للمجتمع الجزائري كمجتمع يسعى لبناء نفسه بعد نيله للاستقلال. ومن بين هاته الأفلام "تحيا ياديدو" لمحمد زينات، "الغولة" لمصطفى كاتب و"الفحام" لمحمد بوعماري…لكن ماسيلاحظ على هذه النوعية من الأفلام أنها كانت تقوم بنوع من "البروباغاندا" للنظام القائم وإنجازاته أكثر من كونها تحاول النبش في مثالب المجتمع وإظهارها ووضع الأصبع عليها.
لكن مخرجا سيؤسس بعد ذلك بقليل لمسار مختلف في السينما الجزائرية هو مرزاق علواش بفيلمه "عمر قتلاتو الرجلة" سنة 1976.
"عمر قتلاتو…" والمرور لمسار مختلف
منذ البدايات ظهر أن مرزاق علواش قد شكل الفارق والاختلاف والاستثناء داخل سينما جزائرية ليست بها لا تيارات ولا مسارات مختلفة عن بعضها البعض. فبفيلمه "عمر قتلاتو الرجلة" بدأ مسارا مُتميِّزا كان من ركائزه الغوص في مكونات المجتمع الجزائري وتناقضاته، ومحاولة تشريحه من خلال تصوير شخوص تتميز بإنسانيتها المفرطة وطابعها المحلي الصرف. فعُمَر الشخصية المحورية في فيلمه الروائي الطويل الأول هذا ذات ملامح جزائرية صرفة، نُتابعها وهي تغوص بنا وتُعَرِّفُنا على نماذج وحالات من داخل مجتمع جزائري مازال يتعلم كيف يعتمد على نفسه بعد سنوات من الاستعمار والهوان. وقد حاول علواش في هذا الفيلم أن يضع هذا المجتمع أمام مرآته الخاصة والتي تُظهر الإنسان الجزائري بِعبقه الحامل لكل تناقضاته الجميلة.
عُمر شخصية حالمة، يعشق امرأة من خلال صوتها الذي وجده في آلة تسجيل اشتراها من صديق له. هو إنسان عاطفي، يعشق الأفلام والأغاني الهندية وأغاني عبد القادر شاعو الشعبية ويسجلها ليستمع إليها في آلة تسجيله الصغيرة. يعيش في بيت ضَيِّق مع أخته المُطلَّقة والأخرى العازبة وأمه وجده.
من خلاله نتعرف على مجتمع الجزائر العاصمة في منتصف السبعينيات بزخمه وحيويته وتناقضاته. فمن صالة السينما للمقهى لمكان العمل للشارع، نشاهد برفقته نماذج إنسانية تُخَلِّدُ لهذه المرحلة وتُسجِّلها لتظل شهادة على عصر مضى وَوَلَّى. إذ يختلط ويتمازج ما هو تخييلي في الفيلم بما هو توثيقي، خصوصا أن عُمَر يخاطبنا كمشاهدين مباشرة ويقدم لنا الأحداث والشخوص التي يلتقيها ويعاشرها، كاسرا بهذا جدار الإيهام بالتخييل في العديد من فترات الفيلم وموهما بواقعية ما نشاهده في نفس الوقت. وربما أن هذا إضافة لأن الفيلم ذو حكي بسيط وخَطَّي وغير مُعقَّد وكونه يحتوي على أغاني شعبية وهندية جعل منه فيلما جماهيريا رغم كونه أيضا نال رضى النقاد وفاز بجوائز مهمة.
وبهذا كان مرزاق علواش يُؤسس لسينماه الخاصة التي زاوجت طيلة مسارها بين هذين الطابعين، مُحقِّقَة تلك المعادلة الصعبة التي يطمح إليها كل مخرج، وهي الفوز بالحُسنَيين: رضا الجمهور الواسع ومباركة النخبة المتمثلة في النقاد و"السينفيليين".
يمكن اعتبار مرزاق علواش واحدا من بين أهم المخرجين الجزائريين منذ منتصف السبعينيات تاريخ إنجازه فيلمه الروائي الطويل الأول "عمر قتلاتو الرجلة" ولحدود الآن، لأنه المخرج الجزائري الوحيد الذي استطاع الحفاظ على نوع من الاستمرارية في إنجاز الأفلام وبمستوى جد مقبول.
وقد شكل "عمر قتلاتو الرجلة" منعطفا مهما في تاريخ السينما الجزائرية، إذ أتى في وقت كانت هذه الأخيرة محدودة في مواضيعها وتيماتها إما بخصوص الثورة وإنجازاتها أو ممارسة نوع من "البروباغاندا" لإنجازات النظام، فيما جاء هذا الفيلم ولأول مرة كنوع من النقد المبطن للمجتمع الجزائري الفتي والخارج للتو من حرب استنزاف طويلة ضد المستعمر والحاصل على استقلاله حديثا.
وخلال نهاية سنوات الثمانينيات اضطر مرزاق علواش للهجرة لفرنسا، ثم الرجوع والهجرة مرة أخرى ليُنجز ومنذ ذلك الحين أفلاما معتمدا على الإنتاج المشترك مع فرنسا.
"باب الواد سيتي" الإرهاب تحت المجهر
في فيلم "باب الواد سيتي" (1994) الذي صور علواش أغلب مشاهده بصورة سرية وبكاميرا محمولة على الكتف صُحبة فريق صغير من التقنيين، وفي أوج صراع السلطة مع الإسلاميين، عالج موضوعا آنيا كما هي عادته مُشَرِّحا المجتمع الجزائري أواسط التسعينيات، مصورا كيف أن المدَّ الأصولي المُتشدِّد بدأ في غزوه ليسيطر على عقول الشباب، ويزرع الرعب في أوساط المواطنين المُسالمين. لكن علواش لم ينس التنويه بالإسلام المعتدل متمثلا في إمام المسجد الذي سينسحب آخر الأمر احتجاجا على ما أصبحت عليه الأمور ودَاقّا ناقوس الخطر الذي كان يتهدد البلاد.
يتميز الفيلم رغم تيمته الجدية والقاسية بروح السخرية التي رافقت علواش في العديد من أفلامه، كونه يُكَسِّر ما أمكن أن يكون عند مخرج آخر نوعا من الميلودراما، مُفضِّلا أن يظل على مسافة مما يقع ومن كل الأطراف حتى يحافظ على دور الشاهد. وفي هذا السياق تحضر الشخصيتان الفرنسيتان الأم وابنها العائدان من فرنسا للجزائر بعد غياب سنوات طوال وكيف أن الابن يوهم أمه العمياء أن الجزائر لم تتغيَّر عما كانت عليه منذ سنوات، عكس ما نراه في الفيلم تماما.