نقد

السينما الجزائرية بين حقبتين.. مسار مرزاق علواش نموذجا (2-2)

عبد الكريم واكريم

"نورمال" والحراك العربي
في فيلم "نورمال" (2011) يُتابع مرزاق علواش مجموعة من الفنانين الشباب أثناء الحراك العربي لسنة 2011، وهم يعانون في محاولتهم لإنجاز أعمالهم الفنية السينمائية والمسرحية، وكيف أن البيروقراطية في دواليب الدولة تقف حجر عثرة أمام تحقيق طموحاتهم وآمالهم وتمنع عنهم الدعم الذي يُمنح لجهات أخرى ربما لا تستحقه. 

ونجد بالفيلم السينما داخل السينما، بحيث نُشاهد فيلما داخل فيلم، بشكل يجعلنا من خلاله علواش نتماهى مع الفنانين الشباب ونتعاطف معهم كمشاهدين، خصوصا أنه اختار أن يجعل الممثلين يتحدثون بحوارات تبدو وكأنها مُرتجلة رغم أنها ليست كذلك. وعلى العموم فإن اشتغاله الجيد مع ممثليه يظهر واضحا في هذا السياق، ليصل معهم لتلك النتيجة التي توهم بالارتجال.
"التائب" والعودة للحركات الأصولية
في فيلم "التائب" (2012) يتناول مرزاق علواش قضية العائدين من حضن الحركات الإسلامية المتشددة في إطار قانون العفو والوئام الوطني، بصورة قل ما نجدها عند المخرجين العرب الذين درجوا على تصوير الإسلامويين بشكل كاريكاتوري، ساقطين في كليشيهات وأفكار مُسبَّقة تخلع عن المنتمين للحركات الإسلاميوية المتطرفة صفتهم الإنسانية، متناسين أو غير مدركين الدوافع الاجتماعية والنفسية والسياسية التي كانت السبب فيما وصل إليه هؤلاء، والتي جعلت جيلا من الشباب يرتمي في أحضان هذه الحركات إما يأسا أو جهلا أو أمية أو فقرا أو بحثا عن انتماء لم تستطع مجتمعاتهم منحهم إياه، أو لكل هذه الأسباب مجتمعة مع بعضها.

لكن مرزاق علواش في فيلمه هذا حاول النَّبشَ والفهم من خلال تتبع نموذج عائد من جحيم التكفير ورفض المجتمع ونبذه ومحاربته. وهو هنا يصل لدرجة من الإبداع بحبه لشخوصه ومحاولة تفهُّم أعذارهم ودوافعهم مهما كانت واهية، وعدم إصدار أحاكم قاسية عليهم.

السرد بالفيلم يعتمد على الحذف والتشذيب والتكثيف الأمر الذي يُضفي جمالية على الفيلم نفتقدها في العديد من الأفلام العربية التي تريد قول كل شيء وتسقط في التبسيطية والمباشرة الفجة. وعلواش هنا يحترم ذكاء المشاهد وفطنته بحذفه لحوارات كانت ستشكل عبئا وبدانة وترهلا على الحكي.

في فيلم "التائب" نجد ذلك الماضي الذي يَتَعقَّب صاحبه مهما حاول هذا الأخير الهروب منه والابتعاد عنه، فشخصية سعيد "التائب" تطمح لبدء حياة جديدة لكنها لا تستطيع ذلك إذ تظل متبوعة بماضيها مع الحركات الإسلاموية المتطرفة.
مسار مُستمر وممتد
يمكن الجزم وبدون مبالغة أن تجربة مرزاق علواش السينمائية من بين أهم التجارب السينمائية عربيا وإفريقيا كونه استطاع ولحد الآن منافسة أجيال شابة والتفوق عليها إبداعيا من خلال المواكبة والتطرق لقضايا وهموم المجتمع الجزائري بأسلوب سينمائي متميز وبنظرة ذاتية ظلت رغم طابع الإنتاج المشترك تحمل كل هذه السنين هَمَّ الوطن وهمومه، إذ اختار علواش جزائريته وأثبت تَشَبُّثه بها في كل أفلامه.

إذ رغم أن أفلام مرزاق علواش تنتمي لسينما الإنتاج المشترك خصوصا مع فرنسا، والتي تطبع كثيرا من إنتاجات دول شمال إفريقيا (تونس، الجزائر والمغرب)، إلا أن هذا لا يُنقِص من قيمتها كأفلام تَغُوص بصدق -ومن وِجهة نظر صاحبها الخاصة والذاتية وبدون تنازلات تُذكَر للجهات المشاركة في الإنتاج- في عمق المجتمع الجزائري وتواكبه في جميع تقلباته وتطوراته وتَبدُّلاته.
ويبدو الآن أن الجزائر ومعها تجارب في دَولَتَي الجوار المغرب وتونس، لا يمكن لها أن تُنتج سينما جميلة وطموحة فنيا بدون هذه الإنتاجات المشتركة، التي يظل الحكم عليها مرتبطا بمدى صمود صانعي الأفلام في هذه البلدان الثلاث من عدمه وتشبثهم بِرُؤاهُم ووجهات نظرهم للتيمات التي يتناولونها وبالأشكال الفنية التي يختارونها لتوصيل هاته الرؤى وتلك المواضيع.

لا يخلو أي فيلم لمرزاق علواش من تصوير لزخم الحياة في المجتمع الجزائري، فإضافة لكونه يتابع تفاصيل حياة وتطور شخوصه بكل دقة فإنه وعلى هامش هذا يَبُثُّ في ثنايا أفلامه مقاطع حقيقية من الشارع الجزائري بكل حيويتها وعنفوانها، وذلك من خلال مزج ذكي بين التوثيقي والتسجيلي بالتخييلي في بوتقة تجعل منهما شيئا واحدا لا يمكن التفريق بينه أو عزل الواحد منهما عن الآخر.

ما يمكن الجزم به وبدون تردد أن سينما علواش ذات طابع إنساني صرف، ما يجعلها تعيش وتنال أهميتها مع الزمن كما تلك الخمر الجيدة كلما قَدُمت وإلا وازدادت قيمة وجودة.

من خلال كل ما سبق تُشكل تجربة مرزاق علواش السينمائية مسارا مهما في تاريخ السينما الجزائرية منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي وحتى حدود اللحظة، الأمر الذي يجعله من ضمن أهم المخرجين السينمائيين بالعالم العربي وإفريقيا منذ بدايات السينما بالمنطقة وحتى الآن. إذ قليل هم المخرجون العرب والأفارقة الذين استطاعوا مثله الوصول للعالمية بأعمالهم انطلاقا من تشبثهم العميق بمحليتهم وجذورهم.

على العموم فالسينما الجزائرية مازالت تُفرز أسماء سينمائية شابة قد تقول كلمتها في المستقبل، لكنها لم تستطع بعد منافسة ما وصل إليه جيل الرواد والمخضرمين وعلى رأسهم مرزاق علواش ومحمد لخضر حامينة، إذ يظل هؤلاء في الريادة بما أنجزوه سينمائيا والذي سيبقى في سجل أهم إنجازات السينما الجزائرية عربيا وإفريقيا ودوليا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى