“الفنان” ياسر جلال والوعي المفقود
مصطفى الكيلاني
لم يكن المشهد الذي شهدناه مؤخرا حين ارتبك “فنان كبير” هو ياسر جلال أمام الجمهور واعتذر لاحقا في مقطع متواضع مجرد زلة لسان أو سوء تحضير. لقد كان مرآة لغياب الوعي، لا الوعي بالثقافة وحدها، بل بالذات والدور والمسؤولية. تلك اللحظة كشفت ما هو أبعد من الخطأ الفردي؛ كشفت أزمة جيل كامل من الفنانين الذين استبدلوا الفكر بالشكل، والقراءة بالشهرة، والعلاقات الإنسانية العميقة بعالم من الشاشات الصغيرة.
الفنان المثقف.. زمن كان
في الزمن الجميل، لم يكن الفنان يعيش في عزلة عن الفكر، بل كان جزءا من نسيج ثقافي متكامل.
يوسف وهبي كان صديقا للعقاد وطه حسين.
فاتن حمامة كانت تجلس في ندوات مفكري عصرها، وتقرأ نجيب محفوظ وتستمع ليحيى حقي.
سعاد حسني كانت تدرك الفارق بين كونها ممثلة ودورها كفنانة تمثل بلدها، وكانت تسمع لكبار كتاب عصرها وعلى رأسهم صديقها الصدوق صلاح جاهين.

عمر الشريف جلس مع توفيق الحكيم يتحدث عن الفلسفة، لا عن أجر الفيلم القادم.
حتى عبد الحليم حافظ، الذي ظنه البعض مجرد صوت جميل، كان مثقفا كبيرا، وصديقا لمعظم مفكري عصره، ويعرف تماما معنى أن يكون “الفن سلاحا ناعما”.
كان الفنان في ذلك الزمن يحمل في داخله فكرة الوطن، لا مجرد صورته.
وكانت صداقاته مرآة لثقافته: جلساته بين الكتاب، وأحاديثه مع المفكرين، وحرصه على أن يتعلم، وأن يسمع قبل أن يتكلم.
لذا كان حوارهم في البرامج واللقاءات قطعة أدب، وكان حضورهم فوق الشاشة امتدادا للوعي، لا بريقا عابرا.

أما اليوم، فتتبدل الصورة حد الوجع. جيل جديد من الفنانين يحسب أن الكاريزما تكتسب من “الجيم”، وأن الشهرة تصنع على “التيك توك”، وأن الذكاء الفني يقاس بعدد المتابعين لا بعدد الكتب المقروءة.
قلما تجد فنانا يعرف آخر رواية صدرت، أو آخر عرض مسرحي مهم، أو حتى اسم شاعر كبير يعيش بينهم. أحاديثهم تدور حول البروتين والموضة والمشاهدات، بينما تغيب عنهم اللغة، والفكرة، والقدوة.
لم نعد نرى الفنان الذي يسهر مع مثقف يناقش قضايا وطنه، أو يجلس إلى شاعر يتأمل معه معنى الحب والحياة، أو يسافر مع كاتب ليتعلم منه كيف تصنع الكلمة معنى الوجود.
غابت الصداقة بين الفنان والمفكر، فغاب معها البعد الإنساني العميق الذي يصنع الفنان الحقيقي.
كرامة ووعي الفنان
ليست الكرامة كلمة تقال في حوار، ولا جملة ترددها الصحف، بل هي موقف يختبر في لحظة فاصلة.
تاريخ الفن المصري حافل برجال أدركوا أن الاحترام لا يمنح، بل ينتزع بثبات المبدأ.
عادل إمام وقف أمام رئيس تونس مكرما، لكن حضوره كان أبلغ من الخطاب، إذ حمل في صمته رصيد خمسين عاما من العطاء. نور الشريف حين رفض تكريما لا يليق بقيمته، علم الأجيال أن الكبار لا يقبلون أنصاف المجد.


ويحيى الفخراني، الذي انسحب من “أيام قرطاج المسرحية” حين شعر أن التكريم ليس من رئيس الجمهورية، أرسل درسا بليغا مفاده أن الكرامة الفنية لا تعرف المجاملة.
ليلى علوى تم تكريمها في مهرجان الرباط لسينما المؤلف الذي تدور فعالياته حاليا، وأدارت ندوتها الكاتبة المصرية ناهد صلاح، وكانت في أوج تألقها كفنانة مثقفة تستطيع تمثيل فن بلدها بشكل مشرف.
هؤلاء لم يتحدثوا عن الكرامة، بل عاشوها. فصارت مواقفهم جزء من ذاكرة الأمة التي لا تحتفي بالنجاح فحسب، بل بالمهابة التي تحرس هذا النجاح من الابتذال.

امتحان الوعي أمام العالم
ما حدث مع ياسر جلال في مهرجان وهران لم يكن مجرد هفوة عفوية، بل كان اختبارا قاسيا لقدرة الفنان على أن يكون واجهة لوطنه أمام العالم.
الزمن كان متاحا، أسابيع وشهور، ليعد كلمة تليق بتاريخه وباسم الفن المصري، لكنه اختار أن يقف مرتجلا أمام الميكروفون، فخانته العفوية، وسقطت منه جملة بدت كأنها شرخ في جدار الصورة التي رسمها طويلا لنفسه.
الحدث لم يكن عن خطأ تاريخي أو سهو بسيط، بل عن رمزية الفنان كممثل لبلاده. وحين يفقد الفنان وعيه بلحظة التمثيل الكبرى تلك التي تتجاوز الكاميرا إلى المنصة فإنه لا يسيء إلى شخصه وحده، بل إلى معنى الحضور المصري نفسه.
الفن بلا وعي يصبح ديكورا بلا روح، وصوتا بلا معنى. الوعي لا يصنعه التعليم الأكاديمي وحده، بل تصنعه المعرفة، والقراءة، والاحتكاك بالعقول اللامعة التي تضيء الطريق. الفنان الواعي لا يكتفي أن يحب الناس أعماله، بل يسعى لأن يثري وعيهم، أن يضيف إلى ذاكرتهم شيئا جديدا.
أما الفنان الذي لا يقرأ ولا يتأمل، فهو كمن يمشي في الظل ولا يعرف من أين يأتي الضوء. الفنان ليس موظفا أمام الكاميرا، بل مرآة لوجدان أمته. وإن فقد هذه المرايا، لم يعد سوى وجه جميل على شاشة خالية من الفكر.
ولذلك، كل أزمة فنان في لحظة العلن، هي في حقيقتها أزمة وعي غائب، لا أزمة كلمات أو مواقف.

العودة إلى الوعي
ربما نحتاج أن نسأل أنفسنا جميعا: متى يتحول الفنان من نجم يصفق له الناس إلى عقل يستنار به؟
متى ندرك أن الفن ليس ترفا، بل أحد وجوه المعرفة؟
إن ما نحتاجه اليوم ليس المزيد من الشهرة، بل المزيد من الوعي. فحين يعود الفنان إلى الكتاب، إلى الحوار، إلى المثقف، إلى المفكر، يعود الفن إلى مكانته التي يستحقها، كضمير الوطن وروحه.
إن كل فنان لا يملك وعيا، لا يملك شيئا. والفن، حين يفقد وعيه، يفقد قدرته على أن يكون ضمير الناس. فليست الأزمة في الخطاب، بل في العقل الذي يكتبه؛ ولا في المشهد، بل في الفكر الذي يوجهه.
الفنان الحقيقي لا يقاس بما يملكه من جمهور، بل بما يملكه من وعي يبني وجدان هذا الجمهور.
فالفن بلا وعي… مثل وطن بلا ذاكرة.

