رأي

المدينة في السينما العربية (6-6) المدينة الجزائرية.. ذاكرة أحداث

جمال محمدي

يذكر جاك فيدال Jacques Vidal في بحثهle Cinéma Français de l’Afrique du Nord أنه في العام )1896( قامت مصانع السينما للإخوة لومييرLesfrères lumière بإيفاد المصور الفوتوغرافي Alexandre Promio إلى الجزائر، لغرض تصوير بعض الأشرطة عن الحياة الاجتماعية في قلب العاصمة الجزائر، حيث تجسدت ما يمكن اعتباره أولى صور المدينة وأحياء المدينة الجزائرية في مشاهد بعض الأحياء مثل باب عزون، سوق العرب، وساحة مقر الحكومة العامة، وفي مدينة بسكرة جنوب الجزائر، التي صور بها الكسندر بروميو شريط حفل زفافUne Noce Indigène  à Biskra (1903)  مدته  دقيقة واحدة، وكانت هذه أولى صور المدينة الجزائرية التي تظهر على الشاشة وكبداية تأريخ لعلاقة الصورة السينمائية مع المدن الجزائرية.

 وفي شريط ظهر مؤخرا على اليوتيوب تحت عنوان الجزائر (1896) للإخوة لومير Alger 1896 par les frères Lumière تظهر صور الشريط، أحداث المدينة في تلك الفترة الهامة، لأن هذه الصور تأتي بعد أقل من سنة فقط من تصوير أشرطة الإخوة لوميير الأولى الملتقطة في باريس الشريط إلى جانب كونه وثيقة هامة لمدينة الجزائر، فهو يظهر نمط معيشة سكان المدينة من الأهالي في حركتهم ولباسهم المميز عن بقية الأوربيين.

وفي فيلم بوسعادة Bousaada أول شريط قصير من سبع دقائق يوقعه المخرج الفرنسي روني مورو René Mauro )1923(، بالأبيض والأسود يبرز بعض المناظر والأزقة وحياة السكان بواحة بوسعادة Bousaada (المدينة الصحراوية) الشريط يبرز هذه الواحة الشهيرة (المدينة) عموما نمط الحياة في بوسعادة في تلك الحقبة الزمنية.

أتت أولى صور المدينة الجزائرية مجسدة على الشاشة في فيلم" القلمونة -تاجر الرمال El Guelmouna le Marchand de Sable  " للمخرج الفرنسي اندري هيقون (1931) حيث أظهرت بعض مشاهد هذا الفيلم بالأبيض والأسود مدينة غرداية، مشاهد تبرز هذه المدينة الصحراوية ذات الطابع المعماري المميز في أقصى الجنوب الجزائري، إلى جانب لباس ونمط عيش بعض السكان في هذه المنطقة، وقد أدى السينمائي الجزائري طاهر حناش دورا في هذا الفيلم ، على اعتبار أنه كان عادة ما يرافق المخرجين الفرنسيين اثناء تصوير أفلامهم بالجزائر والمغرب، وممثل في هذه الفترة، قبل أن يصبح أحد أهم مدراء ستديوهات باريس للسينما. 

ثم كانت مدينة بجاية العريقة عاصمة الحماديين، القطب التجاري في الشرق الجزائري حاليا، في صور جوية تلتقط لأول مرة من عل، بواسطة طائرة مدنية  صغيرة التقطها كاميرا رائد السينما الجزائرية طاهر حناش (1896-1972)كان ذلك في  فيلم كورنيش الحب La Corniche d’Amour  للمخرج جيان فرنكو Jean Francoux سنة (1955) حينما أظهر ولأول مرة بجاية من عل وعلى طول خليج المدينة ، حيث تظهر المدينة كاملة، لاسيما الميناء والقصبة وخلفها المباني حديثة البناء، مما جعلها ربما هذه المشاهد تعد الآن  وثيقة فريدة لمدينة بجاية في تلك الفترة . ويأتي فيلم جميلة بوحيرد للمخرج يوسف شاهين العام (1958) حيث يظهر لقطات البداية لواجهة الجزائر البحرية، ويحاكي في بقية المشاهد مدينة الجزائر القصبة داخل الاستديوهات وتحديدا في استديو الأهرام للمشاهد الداخلية والخارجية.

عشية استقلال الجزائر (1964) كانت مدينة الجزائر العاصمة مجسدة في أول فيلم روائي خيالي جزائري وهو فيلم سلام فتي Une si jeune paix للمخرج جاك شاربي Jacques Charby من خلال الطفلين علي ومصطفى  اللذان يقوداننا في جولة لعب أطفال بريئة وعفوية عبر أحياء العاصمة، أين لازالت المدينة بأجوائها الأوروبية، من خلال جولتهما أراد المخرج أن يؤرخ لملامح صورة مدينة  الجزائر عشية الاستقلال بعيون طفلين هما في الحقيقة يتيمي حرب، وبعفوية  الأطفال وسذاجتهما يقودهما شغفهما اكتشاف طعم الاستقلال، لنكتشف من خلالهما ساحة بورسعيد، السكوار، وباب الواد، والبريد المركزي، وبعض الأماكن والمعدات الحربية بعد مرور عام واحد فقط على استقلال الجزائر، بالأبيض والأسود تمكن المخرج جاك شاربي وبذكاء لافت أن يوثق لهذه المرحلة الانتقالية بشيء من السعادة من جهة ويطرح عدة انشغالات لمستقبل هذه الطفولة التي وجدت نفسها تحت طائلة ظروف أكبر من سنها بكثير !!
 
 وفي العام 1966، كانت المدينة كوعاء تاريخي وسوسيولوجي والقصبة تحديدا ، حاضرة كشخصية رئيسية في الفيلم السينمائي، تؤثث لهذا الفضاء التاريخي العريق للجزائر، في مشهد مقرب في الفيلم الشهير ذائع الصيت معركة الجزائرLa Bataille d’Alger  للمخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو Gilo Ponti Corvo، الفيلم يروي قصة علي لابوانت ونضال مجاهدي جيش وجبهة التحرير الجزائري في المدن، من بطولة ياسف سعدي ابن القصبة  وجميلات الجزائر العام 1956.

وجرى تصوير الفيلم في الأماكن الحقيقة داخل أحياء القصبة الجزائرية العريقة، التي قضى بها كاتب السيناريو أكثر من ثمانية أشهر، يكتشف حميمية الحي وجمالياته السينمائية، ويتعرف إلى فضاءاته وسكانه، ليأتي الفيلم مفعما بالحرارة الدرامية، والمقاربة الواقعية للأحداث، بالإضافة إلى جوانبه الفنية التي عولجت بصور بصرية ودرامية عالية، أضفى عليها الأسود والأبيض واقعية جاءت مطابقة للقصبة في تلك الفترة، فكان أن ظهرت القصبة كما لو كانت استديو وديكور خاص أنجز خصيصا للفيلم، وهي الحميمية والديكور اللذان أعطيا للفيلم خلفية فنية جمالية زادت من قيمته السينمائية،  إلى نهاية سنوات الثمانيات كانت القصبة تظهر في كثير من الأفلام كفضاء وإطار للعيش، ونمط حياة متميز، له خصوصيته الحميمية مع جماليات أصلية المكان. 

كانت هذه الفضاءات ملاذ السكان الأصليين (أولاد الحومة) بالتعبير المحلي،  لمن أجبرهم صخب المدينة وضوضاءها، أو لأسباب مهنية، لتغيير مقرات سكناهم، لكن حنينهم للأماكن يعود بهم إلى المقاهي والمحال التي ألفوها صغارا، لكن مع الانفجار الديموغرافي وتشعب مصالح السكان في اتجاه جهات بعيدة نسبيا عن القصبة، لم تعد مثل هذه الصور تظهر في أفلام تصور في القصبة نفسها، إلا نادرا وفي زوايا ضيقة من أحياء أعالي القصبة العتيقة يتحايل فيها المخرج لإبراز هذه الخصوصية على الشاشة.
 
 وبنفس الديكورات والمدينة، وتحت طائلة نفس الظروف الاستعمارية في العام (1969) تم تصوير فيلم اللقاء La Rencontre  للمخرج سيد علي مازيف، قصة تتناول يوميات طفل يتيم، وضحية حرب التحرير، بعد أن تم تدمير قريته، يلجأ إلى المدينة العاصمة، حيث يزاول بعض الأشغال الشاقة، كحامل سلل وسائق عربة مجرورة، بخلاف أقرانه من الأوربيين الذين ينعمون بالدراسة والحياة الطبيعة.

واليوم نرى كثير من الفيديوهات على اليوتيوب لمدن جزائرية أخرى مثل قسنطينة، وبجاية وهران، سيدي بلعباس، وغيرها، لاسيما في فترة الاستعمار الفرنسي، سواء تعلق الأمر بألبومات الصور أو الفيديوهات المصورة، لاسيما الفترة الممتدة من 1925 إلى غاية 1962 وما بعدها، صور تعكس تطور المدن الجزائرية عبر السنين.
 
في قرية العليق (مشروع هوليود الجزائر) ومدينة بوسعادة 250 كلم جنوب الجزائر، مطلع العام 1972، عرفت هذه الفضاءات، وقائع مشاهد تصوير فيلم ريح الجنوب Le Vent du Sud، للمخرج الراحل محمد سليم رياض، الفيلم يروي قصة الفتاة نفيسة، التي يرغمها أبوها على الزواج من أحد أثرياء القرية فترفض المقترح، وتعيش تناقض نفسي واجتماعي، لأنها كانت تتطلع وهي المتعلمة إلى مستقبل أفضل، فتقرر الهروب ومغادرة القرية في اتجاه المدينة، حيث الأحلام لا تزال ممكنة بحسب قناعاتها ".

ولا نغادر هذه الفضاءات لنشير إلى فيلم آخر لنفس المخرج، تم تصويره بنفس الديكورات والأماكن ويتعلق الأمر بأول فيلم جزائري روائي طويل يتناول القضية الفلسطينية، وهو فيلم سنعودSanaoud يدور الفيلم حول تضحية أحد رجال المقاومة هايل الغازي، الذي يتظاهر بتسليم نفسه لقائد فرقة العدو الإسرائيلي، التي تحاصر مجموعة من الفدائيين، وعندما يقترب منه القائد، يلقي بقنبلة يدوية تُودي بهما معاً، ما يعطي الفرصة لزملائه فدائيي منظمة التحرير الفلسطينية، الإفلات من الحصار المفروض عليهم كان لهذا الفيلم حضوره الإعلامي والنقدي عند عرضه على الجمهور لأول مرة سنة  1972 على أساس فكرته الثورية النضالية.

هي نفسها المدينة ذات الشخصية المحورية نجدها في فيلم الهدية الأخيرة  )Moisson d’Acier1982)  حين اختار المخرج غوتي بن ددوش Ghouti Bendedouche قرية العليق، هذه القرية الجبلية الهادئة والجميلة ذات المناظر المتباينة، تروي أحداث الفيلم وقائع مأساة قرية حدودية مع الألغام التي خلفها الاستعمار، ورغم الضحايا الكثيرين من سكان القرية، إلا أن الباقين مازالوا متشبثين بأرضهم وبقريتهم، في هذا الفيلم أبدع الممثل حسن الحسني حينما أنهي المشهد بسقوطه ضحية الألغام، التي طالما رفض مغادرة القرية بسببها، مما يبين ارتباط الإنسان بأرضه حتى ولون كان هذا الارتباط سيكون ثمنه الموت.
 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى