المغسلة: مغامرة سودربرج مع وثائق بنما
محمد كمال
يخوض المخرج الأمريكي ستيفن سودربرج مغامرة جديدة من مغامراته السينمائية العديدة التي أحيانا تصل إلى الجنون وحملت المغامرة الجديدة اسم (المغسلة)، والفيلم مأخوذ عن كتاب بعنوان (عالم السرية) من تأليف جيك برنشتاين وكتب له السيناريو والحوار سكوت برنز، وبطولة ميريل ستريب وجاري أولدمان وأنطونيو بانديراس، وشارك الفيلم في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا لهذا العام.
أهم ما يميز سودربرج أمرين الأول ذهنه الحاضر حول الأحداث التي تهز العالم وتكون مسار اهتمام وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لفترات فهو سريعا ما يجمع خيوط تلك التفاصيل ويقوم بطرحها في مغامراته السينمائية، أما الأمر الثاني فهو الطرح الغير تقليدي لتلك الحوادث بصريا على الشاشة التي يجعله يتجه أحيانا إلى التجريب، مثلما أقدم في تجربته السابقة (جنون) والذي قام بتصوير الفيلم كاملا بكاميرا موبايل أيفون 7 plus فى تجربة تعد الأولى من نوعها فى السينما الأمريكية والتي تميز بـ بانخفاض التكاليف وقلة العمالة وظهرت الصورة بصريا بشكل جيد حتى في ظل وجود بعض المشكلات فى المونتاج أو تصحيح الألوان لكن سودربرج المغامر المجنون لا يبالي .
وفي هذا الفيلم الذي أنتج العام الماضي ارتكز سودربرج على حملة "Me Too" أو "ضد التحرش" التي اجتاحت هوليوود وقتها خصوصا فكرة تجاهل استغاثات النساء وعدم تصديقهن لسنوات، أما في الفيلم الجديد (المغسلة) في 2019 اقتحم سودربرج أسرار (وثائق بنما) تلك الحادثة التي هزت العالم عام 2016 عندما كشفت تلك الوثائق عن تورط عدد كبير من الحكام والسياسيين ورجال الأعمال وسربت عن طريق مكتب محاماة في بنما يسمى (موساك فونسيكا).
ولأن سودبرج مخرج غير عادي فلم يتعامل مع الأمر بتقليدية مثلما نجد في هذه النوعية الأفلام التي تتعلق بجوانب لها علاقة بأزمات اقتصادية أو عمليات تلاعب في الأموال ليهرب من فخ التخصص والمباشرة الذي وقع فيهما على سبيل المثال (العجز الكبير) و(مكالمة هامشية) و(لعبة مولي)، وجنح سودربرج لاختيار طرقه الغير تقليدية في السرد ليقدم مغامرته الجديدة.
يبدأ المخرج المغامر فيلمه بصورة بنجامين فراكلين التي تتواجد على فئة ال100 دولار ليقول إننا أمام فيلم عن (المال) بتعليق صوتي من بطلي الفيلم يورجن موساك ورامون فونسيكا ليسردا القصة كما قيل من وجهة نظرهما وليس العكس، ويظهر الثنائي الذي قدما دورهما جاري أولدمان وأنطونيو بانديراس ليتحدثا إلى الكاميرا عن الحياة السرية للمال منذ العصور القديمة عندما بدأ بنظام المقايضة وصولا إلى نظام الائتمان والمصطلحات المالية الأخرى سواء كانت معلنة أو خفية ليظهر مع المشاهد الأولى إنها بالفعل مغامرة غير تقليدية جديدة لستيفن سودربرج التي اختصرها في خمسة أسرار حول تأثير عالم المال على الوضع الاجتماعي في أمريكا .
على مستوى السرد تنقل سودربرج بين السرد المباشر على لسان موساك وفونسيكا الذي اعتمد فيه على كسر الإيهام وجعل الثنائي يتحدثا إلى الكاميرا معظم الوقت لشرح تفاصيل بداية القصة وتأسيس تلك الشركة، وبين الحبكة الرئيسية للفيلم حول إلين مارتن التي قدمت دورها ميريل ستريب التي يتوفى زوجها في حادثة غرق عبارة أثناء ذهابهما إلى أجازة وعندما تبحث عن التعويض فتكتشف أن شركة التأمين تم بيعها إلى شركة أخرى لتجد نفسها في دائرة مغلقة محاطة داخل عدد من الشركات الوهمية تتبع مكتب محاماة واحد يسمى موساك فونسيكا في بنما .
أضاف سودربرج بجانب خط قصة إلين ثلاث قصص أخرى ليدعم بها حبكته ويضفي جرعة كوميدية ساخرة من خلال تلك الشخصيات المختلفة خصوصا وأن السرد كان من وجهة نظر مؤسسي الشركة موساك وفونسيكا وهو ما زاد من جرعة الكوميديا في الفيلم وتحديدا قصة رجل الأعمال تشارليز الذي قدم دوره باقتدار الممثل نونزو أنوزي وهي القصة الأقرب في تفاصيلها لحبكة سودربرج التي أراد طرحها، وخلال تلك القصص يظهر سودربرج تفاصيل أكثر عن أكبر مغسلة في التاريخ فمن خلال مكتب المحاماة يتم تأسيس عدد من الشركات الوهمية على الورق فقط لرجال الأعمال والأثرياء من رجال السياسة كنوع من التلاعب المالي عن طريق أمرين الاول غسيل الأموال والثاني الهروب من الضرائب وتم اختيار بنما لتكون مقرا للمكتب لضعف منظومة العدالة بها .
أجادت ميريل ستريب في تجسيد دور إلين التي تعبر عن الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة الأكثر ضررا في الأعوام الأخيرة سواء بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية أو بسبب تفاصيل المغسلة في هذا الفيلم فأداء ستريب البسيط الهادئ في ظاهره لشخصية على المستوى الداخلي على وشك الانفجار أضفى للدور النزعة الإنسانية التي ارتكز عليها سودربرج لتكون موازية للسرد المباشر.
أداء مذهل خفيف الظل أشبه للكارتوني قدمه الثنائي جاري أولدمان وأنطونيو بانديراس خصوصا جنوحهما لتبسيط المعلومات الاقتصادية التي يكتظ بها الفيلم وتغليفها بجمل كوميدية سياسية ساخرة فظهورهما برغم مباشرته الشديدة والاقتراب من الشكل الخطابي إلا إنه ظهر بسيط وساخر يقترب من الهزلي أحيانا.
أسهم الظهور السريع لبعض النجوم في إعطاء ثقل أكثر لمغامرة سودربرج مثل شارون ستون، ديفيد شويمر، جيمس كرومويل وماتياس شوينيرتس لكن يظل الأداء الأفضل في الفيلم بجدارة نونزو أنوزي لتكتمل مغامرة سودربرج الفنية بواحد من أفضل أفلام السينما الأمريكية خلال عام 2019