الممر.. من جديد
إيهاب الشيمي
قررت منذ يومين أن أشاهد فيلم "الممر" مع العيال وأمهم.
بالطبع كنت أعرف مقدماً أن الفيلم يتناول تحديداً هزيمة الخامس من يونيو 1967 وما تلاها من عمليات كانت مقدمة لحرب الاستنزاف التي بدأت في عام 1969، وبالتالي كنت مستعداً على المستوى النفسي لمشاهدة ما سيثير الكثير من الألم والغضب والحزن في آن واحد.
ولكن يبدو أن ذلك الاستعداد وتلك الجاهزية الذهنية لم تكن سوى أكذوبة خدعت بها نفسي لتحملني قدماي إلى داخل قاعة العرض، فما أن بدأت أحداث صبيحة يوم الخامس من يونيو وتوالت مشاهد الضربة الجوية الإسرائيلية على مطاراتنا وقواعدنا ومعسكراتنا حتى شعرت بوقع كل قذيفة وكل رصاصة كأنها تخترق صدري أنا لينتفض جسدي مع دوي انفجار كل منها.
بلغ الأمر ذروته حين ملأ الشاشة ذلك المشهد الذي تتحرك فيه الكاميرا مع القنبلة التي تترك باطن القاذفة الإسرائيلية وتبدأ في السقوط نحو هدفها، الذي يمكنك من مقعدك مشاهدته بعيداً هناك في الأسفل والذي لم يكن سوى ذلك الخندق وقد امتلأ عن آخره بالمجندين الباحثين عن النجاة بعد أن ألقت بهم قيادتهم في قلب سيناء دون أن يكملوا يوماً واحداً من التدريب، بل دون أن يتمكنوا من ارتداء ملابسهم العسكرية قبل التوجه لقلب الصحراء.
وبينما كانت القنبلة تتسارع في سقوطها نحوهم كانت دقات قلبي تتسارع بنفس المنوال وكانت يداي تزيدان من تشبثهما بمقعدي وكأنهما تحاولان منعي من السقوط المروع مع تلك القنبلة.
فجأة.. يتوقف كل شيء داخل قاعة العرض.. حتى أكاد أقسم أن عقارب الساعة نفسها قد توقفت عن الدوران حين اصطدم الغلاف المعدني اللامع المزين بالنجمة السداسية بحافة الخندق لتنفجر القنبلة الضخمة التي يحتويها وتتطاير معها أجساد وأحلام عشرات الجنود وسط مزيج مزعج من الدم والدخان والرمال والصراخ والألم.
رغم كل الصخب والفوضى التي سادت المشهد، إلا أن السكون كان قد فرض سطوته بشدة على كل شيء داخل قاعة العرض حتى تكاد من شدته أن تسمع دقات قلب من يجلس بالمقعد المجاور لك بينما تتحول الكاميرا ببطء إلى زاوية بعيدة حيث يقف ذلك الصاري الذي يحمل علم مصر ممزقاً ومحترقاً وسط سحابة ضخمة من الدخان الأسود، لأجد نفسي وقد اغرورقت عيناي بالدموع وكأني هناك معهم ممداً على رمال الصحراء غارقاً في دماء الصدمة.
نعم.. رغم كل شيء، يبدو أن استعادة أحداث وتفاصيل تلك اللحظة وذلك اليوم يثير نفس الألم ونفس الغضب ونفس الحزن في كل مرة، فليس هناك ما هو أكثر إيلاماً من فقد الكرامة والعزة وانكسار الوطن.
فيما تبقى من الفيلم، وبينما تخرج بك الأحداث رويداً رويداً من رحم المأساة الضيق المظلم إلى رحابة وإشراق الحلم باستعادة الأرض من جديد، راودتني تلك الأحاسيس التي راودتني حين تابعت في نفس قاعة العرض منذ عامين أحداث فيلم "دنكيرك" حيث تمكن كريستوفر نولان من تحويل أكبر كارثة عسكرية في تاريخ الجيش البريطاني إلى عمل فني يضخ المزيد من الدماء في أوردة مشاعر الوطنية والفخر والرغبة في الانتصار على كل الأعداء من أجل الوطن.
حين انتهى العرض، لم أجد نفسي إلا وأنا أقف مصفقاً بحرارة لكل من شارك في هذا العمل الذي كما أثار مشاعر الأسى والغضب، نجح كذلك وبجدارة في إثارة مشاعر الفخر والعزة والكرامة بكل هؤلاء الأبطال من أبناء هذا الوطن العظيم الذين خرجوا من الهزيمة ليذيقوا العدو نفس مرارتها وليمنحونا الأمل في عودة تراب الوطن من جديد.
ما أثبته هذا الفيلم هو أن هذا الشعب وبرغم كل ما يعانيه من قسوة الظروف وضيق المعايش وتغول الفساد، إلا أنه حين يتطلب الأمر، فإنه يتحول لقوة جامحة في وجه الأعداء دفاعاً عن الوطن الذي يظن أحياناً تحت وطأة الضغوط أنه لم يعد وطنه، ودفاعاً عن الأرض التي يعتقد في ثورة غضبه أنه يمكنه استبدالها بأخرى أكثر عطفاً وكرماً وأكثر احتراماً وتفهماً لإنسانيته.
وما تأكدت منه شخصياً بعد مشاهدته، أننا بحاجة للكثير من هذه الأفلام لتكون بدورها بمثابة "الممر" الذي يعبر من خلاله الجيل الحالي من ضيق الشك وعتمة اليأس إلى رحابة الثقة في عظمة هذا الشعب ونور الأمل في مستقبل أفضل.
تحيا مصر وليبقى دائماً المجد للشهداء.