بعلم الوصول: حكاية البحث عن أمل
مصطفى الكيلاني
مامعنى أن يكون الفيلم انساني؟ ما الحافز الذي يقدمه الفيلم للمشاهد كي يستمتع؟
أسئلة كثيرة ترسلها الأفلام التي نشاهدها في المهرجانات العربية في السنوات الأخيرة، من "اشتباك" لـ"يوم الدين"، "جسد غريب"، "آدم"، "آخر واحد فينا"، وغيرها.
حكايات المهمشين الذين يطمعون في أمل بسيط، ونحن معهم، في البحث عن هوية وطريق، وحياة كالحياة، بعد أن فقدوا ذلك الأمل معلقا على رايات الثورة، أو في "نشنكان" بندقية يحملها ملتحي، أو على منديل سياسي يمسح به عضوه بعد علاقة حميمة مع أفراد الشعب الكادح.
كنت أحكي صباحا مع أحد المهتمين بالسينما من خارج الوسط عن توجه عام لدى صناع الأفلام وصناديق تمويلهم لتقديم سينما عن أشخاص بلا أمل، ومساء شاهدت في أيام قرطاج السينمائية "بعلم الوصول" التجربة الأولى للمخرج المصري هشام صقر، الذي قدم تجربة موجعة لسيدة مريضة نفسيا، لا تملك أي عاطفة نحو طفلتها الرضيعة، ولا حتى زوجها.
حكاية باردة في بداية الفيلم، لكنها تحمل الكثير من المشاعر، "هالة" التي يبدأ الفيلم بمحاولة انتحارها، وينقذها زوجها "خالد"، في مشهد بسيط، نفذه المخرج بأسهل شكل ممكن، وهو الأسلوب الذي صنع به كل مشاهده، ونقل إلينا مشاعر شخصياته بدون أي فزلكة.
ينقل لنا الفيلم حدوتة "هالة"، علاقتها بطفلتها، أمها، اختها الصغيرة، وجارتها التي لا تصل لمرحلة الصديقة إلا متأخرا، فقدانها لأبسط علاقة بتلك الحياة، حتى مع تعرض زوجها لأزمة في عمله تسببت في سجنه، ترى ملامح محايدة على وجهها الذي ارتسمت عليه تجاعيد روحها.
يحتفي المخرج بـ"شباك" شقة "هالة"، الذي تجلس مستندة عليه، تدخن وتنظر للأعلى، باحثة عن روحها في الفراغ، أو بحثا عن أمل، ويحتفي أكثر بالحالة اللونية في معظم مشاهد الفيلم، درجة "السيبيا" تضعنا في حالة الحنين للماضي، وتشرح لنا علاقة "هالة" بوالدها المتوفي، فغيابه هو سبب مرضها.
يسرد السيناريو تفاصيل حكاية "هالة" التي نعرف تفاصيلها تدريجيا، في مشاهد متعددة، متناثرة، تجعلك مرتبطا بالفيلم رغم الإيقاع الهادئ، والمشاهد التي يسرد فيها المخرج بصريا حالة البطلة، ويطرح تساؤلات حول جدوى حياتها.
لا تستطيع طوال مدة الفيلم إلا أن تتعاطف مع هالة، تلك التي لا تبدي حتى تعاطفا مع نفسها، تشاركها شرودها، وغيابها عن العالم، وثقوب روحها المتعلقة بالوالد المتوفي، الرسام الذي كان يملأ قاعة الدرس التي كانت فيها برسوماته، وتستعيد حياتها بالأمل في شقيقتها الصغيرة العنيدة، التي تملك موهبة الأب، وروحه المنطلقة، لتجد في شقيقتها أمل جديد في حياة ترسمها الشقيقة على حائط البيت، رسمة بلونين فقط، شباك مفتوح لشمس وبحر أزرق.
سعادتي بالفيلم، لأنه أعاد لنا ممثلة موهوبة "بسمة"، اختفى المكياج من على وجهها، وبقي مكياج الشخصية، وسعدت بممثلة تحتل مساحة في القلب بعفويتها "بسنت شوقي"، والطفلة "مها" التي تبتعد عن النموذج المعتاد للأطفال الذين يتم توظيفهم في السينما والتليفزيون لملامحهم فقط، بدون أي موهبة أو تدريب.
"الأمل" هو مفتاح قراءة ذلك الفيلم، فرغم كآبة الطرح في البداية، لكنه فتح دائما الشباك، وأنار "شمس اللوحة" على الحائط، كما في مشهد جميل بين الأختين هالة ونعمة، ولا أظن أن اختيار الاسمين جاء عبثا، فكانت "نعمة" هي التي سكبت روحها الجريئة في شقيقتها الكبرى، ومنحتها "نعمة الأمل".
لم أجد في "بعلم الوصول" الذي عرض في "قرطاج" إلا هنّات التجربة الأولى، وتختفي من ذاكرتي، لتبقى السينما الجميلة، والأمل الأجمل الذي ينسينا أي أخطاء.