تاركوفسكي.. سيمفونية الحرب
مروان مجدي حبيب
الحرب العالمية الثانية بلا شك أحد الأحداث التي لها أكبر أثر على الإنسانية، كانت تعبير حاد عن جنون عصرنا، وعلى الرغم من أننا نعلم جيداً أن هذا الجنون يؤدي لمقتل ملايين الأرواح بالإضافة إلى الجروح الاجتماعية، لكننا لانزال نري بوضوح مثل هذه المسرحيات على الساحة الدولية حتى وإن تبلورت فكرة الحرب إلى اللهث وراء موارد الأوطان ومقدراتها من نفط وطاقة والهيمنة الاقتصادية.
هذا الواقع الذي لم يتغير منذ قرون، وعند هذه النقطة يلفت المخرج السوفيتي /أندريه تاركوفسكي انتباهنا إلى حقيقة غاية المرارة، أن السينما لا يمكنها تعليم البشرية شيئاً، لأنه وببساطة شديدة البشرية أثبتت أنه لا يمكنها تعلم أي شيء خلال الأربعة آلاف سنة الماضية، وهذا اللفت كان بمثابة تأكيد على موقف تاركوفسكي المعارض لقصص البطولة الكاذبة، والسرد التعليمي في معظم الأفلام المناهضة للحرب.
إن الحرب لا تجعل الطفل ناضجاً، لكنها تسرق طفولته وتقتله. في أول تجربة لفيلم طويل لتاركوفسكي، لم يتردد في أخذ نهج جريء لمناقشة تبعات الحرب على النفس البشرية التي هي بطبيعة الحال هشة، لذلك فهي تتأثر بالشرور التي تواجهها بشدة.
فيلم طفولة إيفان (1962) هو خير مثال علي مقولة الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر “أن الحرب تقتل حتى الناجين منها”.
في بداية الفيلم ربما نجد أنفسنا أمام أحد أهم مشاهد الأحلام في السينما، نسمع صوت الوقواق، أنظار الطفل إيفان (نيكولاي بورليايف) تقع على أغصان شجرة لم تنضج بعد، مما يرمز إلى طفولة إيفان وحياته الخاصة.
أصوات الوقواق تعلوا في السماء، خلال بحث بسيط عن سلوك طائر الوقواق تجد أنه يضع بيضه في أعشاش الطيور الأخرى، بهذه الطريقة يتم تربية طيور الوقواق في بيئات مختلفة لا تنتمي لها، وعندما يفقس بيض الوقواق يتخلص صغار طائر الوقواق من بيض الطيور الأخرى لضمان أنهم لن يتنافسوا على الغذاء والاهتمام مع طيور أخري، غريزة استعمارية لكنها هذه المرة في عالم الطيور وقد استخدمها تاركوفسكي للإشارة إلى جرائم النازيين.
نري الطفل إيفان يتجول في أحد لوحات تاركوفسكي السينمائية، عناصرها ماعز ملفتة للانتباه والماعز في المثيولوجية القديمة هي تمثيل للشيطان، وفراشة بيضاء ليتذكر المتفرج براءة إيفان الطفل، وأيضا في الإيمان المسيحي الفراشة البيضاء هي تمثيل لروح ادم في جنة عدن.
إن صعود إيفان بعد رؤيته الفراشة ه وبمثابة الانتقال من الجهل للمعرفة، لأن الشجرة التي تبرز أثناء الصعود تتوافق مع شجرة المعرفة في السرد الديني وهي معرفة الخير والشر والتي طُرِدَ ادم من السماء بسببها، سقوط ادم من السماء يمثله استيقاظ إيفان مفزوعا من هذا الحلم عندما يخبر والدته وهو يشرب من الدل وإن هناك طائر وقواق فتتبدل ملامح الأم إلى الفزع.
عندما يصل إيفان إلى المقر العسكري، يقابل الملازم جالتسيف (يفجيني جاريكوف) لانتظار الكابتن خولين (فالنتين زوبكوف) من القيادة ليخبره بالأسرار التي تحصل عليها من خطوط العد والنازي، فبرغم أنه طفل يبلغ 12 عاماً لكنه يعمل جاسوس لصالح السوفييت، ينام الطفل إيفان أثناء انتظاره لخولين، لنجد أنفسنا أمام الحلم الثاني لإيفان.
نري إيفان ووالدته يتحدثان عند فم بئر عميق، تقول له والدته ” كلما كان البئر عميق، كلما تستطيع أن تري نجمة فيه في وقت الظهيرة”، إشارة من تاركوفسكي أن الأمل دائماً موجود بداخلنا ونحن من نصنعه بالقدر الذي نريد لأنفسنا أن نراه. أحلام إيفان هي محاولات نابعة من داخله للخروج من أجواء الحرب لكن كالحلم الأول إلى أنتهي بنظرة فزع الأم، ينتهي هذا الحلم بسماع دوي إطلاق النار وسقوط الدل وفي البئر وسقوط الأم قتيلة وسط أجواء متوترة يملئها صراخ إيفان.
عندما يعود إيفان إلى مقر القيادة مع الكابتن خولين، الذي يبد وأنه قال لإيفان أنه سوف يُرسَل إلى المدرسة العسكرية، هذا الأمر الذي يرفضه إيفان ويحاول تثبيط المقدم عن هذا القرار لكنه يفشل ويغادر المقر هرباً من إرساله إلى المدرسة مشبهاً إياها بملجأ الأيتام وأنه مثلما هرب من الملجأ سوف يهرب من المدرسة أيضا، نري جهد كبير في هذا المشهد المفعم بحيوية الجنود وتحضيرات الحرب في الخلفية.
رسم تاركوفسكي صورة عامة للوطن في ذلك الوقت مع مشهد الرجل العجوز إلى ينتظر على أنقاض منزل لم يتبقى منه سوي مدخنة وباب، إشارة إلى الاتحاد السوفيتي الذي حولته الحرب إلى أنقاض بالمعني الحرفي ولم تترك مساحة للمعيشة، الديك بجانب العجوز إشارة على عدم القدرة على الهرب، فمثلما لا يستطيع الديك الهروب برغم امتلاكه لجناحين، لا يستطيع البشر الهروب من الشرور برغم امتلاكه للعقل، وإشارة أخري للأمل عندما قال العجوز لإيفان الذي صادفه أثناء هربه “إن الموقد والمدخنة سيدخنان إلى الأبد”.
في قصة طرد آدم من السماء في السرد الديني قطف التفاحة من شجرة المعرفة ه وتعبير عن انتقال البشرية إلى البُعد المادي، في ثالث أحلام إيفان، يعطي تفاحة للفتاة التي تمثل حواء، لكنها تهز رأسها بطريقة تومئ بالرفض، يلتقط إيفان تفاحة أخري التي تمثل التفاحة المحظورة، فنري ملامح الفتاة تتبدل إلى ملامح حادة ويسقط التفاح من العربة لتأكله الخيل.
الخيل في الغالب يتم استخدامها في التعبير عن الحرية والرغبة في السينما لكن في رأي أن استخدامها هنا كرمز للقوة والحرب، فعندما يستيقظ إيفان من النوم سيرسله الكابتن خولين للحرب وحتى النهاية إلى أن يموت إيفان، مع الأخذ بالاعتبار أن الخيول قد تم استخدامها في الحروب لعدة قرون، قد تبدو هذه القراءة صحيحة.
النهاية، مثل نهاية أحلام إيفان دوماً التي تنتهي بمأساة، عندما يحقق السوفييت النصر، يجد الملازم جالتسيف صورة إيفان بين أولئك الذين ماتوا. طوال الفيلم لا يتم التركيز في مشاهد الموت والمعارك، لكن تاركوفسكي يكسر هذا الإيقاع ليبين لنا بشاعة الحرب فيكشف عن جثة الطفل إيفان ووجهه المشوهة.
في المشهد الأخير الذي يبد وكأنه امتداد لأحد أحلام إيفان، وانقطاع طفولة إيفان بالشرور في اللحظة التي تحررت فيها روح الطفل، الشجرة الذي يراها إيفان على الشاطئ والتي تمثل شجرة الحياة التي توحي بخلود طفولة إيفان وفناء ذِكر دعاة الحرب، ينتهي الفيلم مع إيفان وهو يركض على شاطئ البحر ويداه ممتدة لأشعة الشمس والأمل دوماً.
لسلوب جديد وفريد من نوعه، تحياتي للناقد الشاب وكل التوفيق.