توركاريه.. محاولة كان لا بد منها
حسين روماني
قليلة هي العروض المسرحية التي تحجز موعداً معك في آخر السنة وتنتظرك لتحضرها، كمن يأتي متأخراً لسبب معين ربما، كذلك كان العرض المسرحي “توركاريه” الذي كانت حجته معه في الغياب إلى أن عُرِضَ على خشبة القباني لمدة 3 أيام برعاية من الاتحاد الوطني لطلبة سورية وبالتعاون مع مديرية المسارح والموسيقى.
لحظة ملامسة عينك لـ “بروشور” العرض الذي صممته “راما فليون” سترى دوائر وأشخاص في إشارة إلى العلاقات البشرية يتوسطها قصاصة وضعت تحت شريط لاصق مرسوم عليها رجل لونه أحمر يختلف عن باقي الأشخاص الموجودين بلونهم الأسود، وكأنه لا ينتمي إلى ذلك الوسط لكنه رغماً عن كل شيء تعلّق في العمق ليكون مركز تلك العلاقات.
هذا الارباك الحاصل امتد ليشمل اسم العرض مفردات مهدت لنا سهولة النظر إلى الشخصية المحورية “توركاريه” بقبعته البرجوازية الذي امتدت ثروته نحو منزل عشيقته “البارونة” عبر خاتم حصل عليه كجزء من أرباحه دون عناء، تلك المفردات حجزت عنوان المسرحية بينها كإشارة إلى محيط الأحداث.
كتب مسرحية “توركاريه” الكاتب الفرنسي “آلان رينيه لوسّاج” فعبّر من خلالها عن حقبة زمنية كانت في العام 1709 نهاية حكم الملك لويس الرابع عشر، لتكون مرآة للمرحلة الدقيقة التي مرّت بها فرنسا من صعود الخدم نحو طبقة النبلاء عبر طرق عدة لجمع ثروتهم وهبوط الأسياد بعد خسارتهم للأموال التي حصلوا عليها بنفس الطريقة.
وهو يحكي قصة “توركاريه” جابي الضرائب والمرابي الذي صعد سلّم الخدم بتلك الأموال نحو طبقة النبلاء، وهو متيّم بهوى “البارونة” أرملة من الأشراف تستغلّ عاطفته لتبذّر أمواله مع عشيقها “الفارس” الذي بدوره يراها كدجاجة تبيض له الذهب بعد أن يروي ظمأ عشقها بالكلام المنمّق.
يبدأ المشهد الأول من نهاية القصة مع “فرونتين” خادم الفارس الذي يخضع للتحقيق في أمواله وطريقة حصوله عليها، ليختار كشف أوراق سيده الأخير “توركاريه” وإنقاذ نفسه من حبل المشنقة، وهنا يعود العرض إلى البداية عبر ظهور الخادمة “مارين” التي تحاول تسييس سيدتها “البارونة” نحو مصالحها مع “توركاريه” لكنها تفشل وتترك مكانها لخادمة أخرى حبيبة “فرونتين” الذي ينتقل من خدمة “الفارس” ويأخذ مكان “فلامان” لدى “توركاريه” لتحقيق غايات سيده أيضاً، وفي قلبه نية الاستفادة من كل شيء كي يحصّل ثروةً كبيرةً هو الآخر مع حبيبته، ولكن وقبل تلبية دعوة العشاء تنكشف الحقيقة.
فالرجل الغني الذي يحاول الهرب من أيدي الدائنين مجرد خادم أصبح سيداً، وهو ليس أرملاً فزوجته الريفية أتت إلى المدينة باحثةً أيضاً عن المال بين طبقة النبلاء مع “الماركيز”، والفارس يخلع قناع الحب أمام البارونة بعد أن خسر كل شيء، لتكون جعبة “فرونتين” الممتلئة ليست إلا نهاية عهد “توركاريه” وبداية عهده، عرض ربما ينتمي إلى الطمع لكن الحب والخداع لهم حصتهم من الجو العام.
نصّ عالمي استند عليه كلّ من “يحيى عبد الهادي”، “كنان شاهرلي”، وشريكهم “أحمد الحميدي” خريجوا قسم التمثيل في كلية الفنون بالجامعة العربية الدولية، ليعدّوه ويخرجوه كعرض انتمى إلى المسرح الجامعي مع زميلتهم الخريجة “نورهان الحمد” ومجموعة من الشباب الهواة.
وباعتبارها تجربتهم الأولى خارج أسوار الجامعة، فإن الاتكاء على نصّ جرت أحداثه في مكان واحد وهو منزل “البارونة” كان خياراً صائباً لضبط العرض بعيداً عن الأماكن المتعددة، وهو أمر يشبه إلى حد كبير امتحانات طلّاب التمثيل الفصلية، فالحذر تجلى هنا من خلال الالتزام باللغة الفصيحة التي أصابها بعض الأغلاط النحوية أثناء الحوارات والسرعة في الإلقاء لدى بعض الممثلين كأنهم يتسابقون للوصول إلى خط النهاية.
أما التقيد الناجح بالفترة الزمنية للأزياء والديكور لم يستطع أن يخفي إقحام بيت شعر لنزار قباني، وأسماء رياضيين خلال حوارات الشخصيات التي غاب عن معظمها الصوت المسرحي، وحتى الإيماءات ولغة الجسد كانت في بعض النواحي مكبّلة بأصفاد المثالية كيد “توركاريه” (عمر التل) التي ظهرت بوضوح وهي تمسك ببطنه بشكل مبالغ، وغائبة كغياب الروح عن الجسد في الحوارات المسموعة التي هي أقرب للإلقاء.
في حين كان الاتقان ملاصقاً لحركة وملامح وانتقالات شخصيات الخدم، أولهم “فرونتين” الذي لعبه “كنان شاهرلي” و”مارين” التي أدتها “نورهان الحمد”، وأخيراً “فلامان” الذي كان من نصيب “أحمد الحميدي”، ولم يكن هنالك من داعٍ للعب 3 شخصيات من قِبَلِ “كمال أبو سعد”، الذي تحسب له المحاولة لكنها افتقرت إلى الخبرة في الانتقال بينها، ولامست موسيقى العرض التي ألفها “ريبال النوري” تفاصيله مع الإضاءة التي صممها “إياد العساودة”.
تجربةً كان يحتاجها هؤلاء الخريجون والهواة لملامسة الخشبة بشكل مباشر والعمل على أرض الواقع أمام جمهور مسرح القباني بدمشق بعيداً عن مختبراتهم الفنية، فالنضج لا يأتي إلا بعد الممارسة والتعلّم من الأخطاء التي تصبح فيما بعد خبرةً، وهو أمر وجدناه في إصرار أصحاب العرض على تنفيذه بعد شهور من القراءة والتمرين المستمر، لنصفّق لهم في المشهد الأخير تقديراً على كل جهد مبذول.