جسر الجواسيس.. فن الدفاع عن العدو
محمود عبدالشكور
Do you never worry?
Would it help??
ليست مجرد جملة حوار في فيلم " جسر الجواسيس" لستيفن سبليبرج، ولكنها عنوان شخصية الجاسوس السوفييتي الذي لعب دوره مارك رايلانس، تضرب كلماته أكثر من عصفور بحجر واحد: فهي تدل أولا على ثباته الانفعالي، وملاءمته تماما لمهنته التي تتطلب ذلك، وهى ثانيا تكشف عن شخصية عملية لا تهتم إلا بالنتائج، براجماتي سوفييتي إن جاز التعبير.
وهي ثالثا تصنع مفارقة ساخرة، فالمحامي الأمريكي (توم هانكس) هو الذى يشعر بالقلق من الموقف والمأزق، قلق مهني مبرر للغاية، وليس هذا شعور الجاسوس السوفييتي، الذى يعتبر أن تماسكه أثناء التحقيق جزء أساسي في مهمته، وهى رابعا كلمات تمنح ثقلا قويا للجاسوس في مواجهة الطرف الأمريكي، مما يجعل الدراما قوية.
أكبر الأخطاء في الدراما الضعيفة، أن تقدم العدو بصورة سطحية أو تافهة أو ضعيفة، فيبدو الصراع محسوما، ويبدو النصر بلا أهمية، قوة الدراما في هذا الفيلم ليست فحسب في التفاصيل، وإنما في قوة إحساس كل طرف بواجبه، وقوته في التعبير عن منطقه من خلال الحوار: الجاسوس، ومحاميه، والمحققون، كل طرف مؤمن جدا، ومخلص جدا لدوره ومهنته، رغم اختلاف الدوافع والأهداف، وبسبب هذا الاختلاف، ينشأ الصراع، الذي هو عصب الدراما الناجحة.
الحوار الذكي هو الذي يفهم دراما الفيلم، ويكشف عن طبيعة الشخصيات، ويعبر عن المعنى في أقل عدد من الكلمات، وقد تحقق كل ذلك في هاتين اللقطتين، فإذا كان لديك توم هانكس ومارك رايلانس، فقد حققت مشهدا سيدخل ذاكرة السينما، ضمن أفضل مشاهدها الحوارية.
شاهد تعبير وجه هانكس، دهشة وجدية في باطنها استنكار، فيرد رايلانس بتعبير أقوى: دهشة وجدية في باطنها سخرية، شاهد أيضا حركة المجاميع في الخلفية، هؤلاء "كومبارس"، محترفون كأنهم فعلا في محكمة، وفى الغالب تسند مهمة ضبط وتصميم حركتهم لمساعد المخرج، لا يتحركون إلا حسب أوامر المخرج ومساعده، بينما في بعض الأفلام تجد المجاميع في الخلف تبدو حركتهم مصطنعة تخطف الأضواء من حركة الممثلين الأساسيين.
فيلم "جسر الجواسيس" للمخرج ستيفن سبيلبرج ومن كتابة الأخوين كوين، وهما من أبرز المخرجين وكتاب السيناريو في أمريكا، أعتقد إن مناطق التميز العظيمة في السيناريو لم تصل، وإن إطار الجاسوسية والحرب الباردة الخادع ممكن يكون صرف البعض عن أفكار الفيلم الأصلية، وعن بنائه الدرامي الفذ.
أولا الفيلم نموذج لما نردده دائما بأن الدراما الجيدة والناضجة هي التي تعمل في المناطق الرمادية، بعيدا عن التنميط واللونين الأبيض والأسود، وهي الدراما التي تقدم وجهتي نظر أو أكثر بنفس القوة. الإنسان كائن رمادي، والمناطق الملتبسة في العلاقات الإنسانية هي التي تصنع دراما ممتازة، وقد تحقق ذلك في "جسر الجواسيس" الى درجة بارعة حقا، حيث يبدو الجاسوس السوفييتي رودلف إيفانوفيتش أبل (وهو بالمناسبة شخصية حقيقية) مركز ثقل الفيلم، رجل متماسك وهادئ، يرفض أن يدلى بأية معلومات، ويتحمل بشجاعة ثمن سقوطه، مهما كانت العواقب.
وحيث يبدو أيضا المحامي الأمريكي دونافان (شخصية حقيقية أيضا) قوى ومؤمن بدوره، ويتحمل الهجوم عليه، وتحقق الدراما نجاحها الأكبر عندما نعجب بالطرفين الأمريكي والسوفييتي معا، كما نتمنى أن ينجح وينجو الاثنان معا، وهو ما سيحدث بالفعل، مع ملاحظة أن الدراما ليست فيما فعلته الشخصيات الحقيقية، وإنما فيما فهمه كاتبا السيناريو من هذه الأفعال، في الأفكار التي وجداها في تلك التصرفات.
ثانيا الفيلم وإن كان موضوعه الجاسوسية، إلا أنه بالأساس عن فكرتين في منتهي العمق والذكاء، الفكرة الأولى عن تلاقى اثنين من عالمين مختلفين، بل هما من الأعداء، ولكن يجمع بينهما شيء واحد هو أداء ما يعتقدون أنه الواجب، تجاه مهنتهما، وتجاه وطنهما، وهذا هو سبب اقترابهما العجيب، وكل من الجاسوس والمحامي يقوم بواجبه حتى النهاية، وبدون ذرة تردد، إنه فيلم عن الواجب من زاويتين للرؤية، عن رجلين يستحقان عملهما عن جدارة، رغم أنهما في اتجاهين متعاكسين، ورغم اختلاف مهنتهما الى درجة التناقض، هذه هي المنطقة الرمادية التي اقتنصها الأخوان كوين، ليس هناك أبيض وأسود، هناك رجلان محترفان يمارس كل واحد منهما عمله، ويدرك كل واحد قدر الأخر.
الفيلم يبدأ بنهاية عملية التجسس، بالقبض على رودلف، إنه ليس عن العملية أصلا، ولكنها مجرد حيلة للدخول الى لقاء الرجلين المحترفين، حيث نكتشف في النهاية أن الجسر الذي ستقيمه الكتابة العظمية بين الرجلين، أقوى وأهم من جسر تبادل الجواسيس الواقعي، الذي يتم تبادل الجواسيس عليه، أي أن فكرة الجسر الواقعية تكتسب في النهاية دلالة رمزية عميقة للغاية.
أما فكرة الفيلم الثانية والأهم فهي بالطبع مدح القيم الأمريكية التي لا يمثلها في الفيلم إلا المحامي دونافان، حيث يتحدث عن العدالة، والمحاكمة القانونية، وأداء الواجب تجاه المتهم مهما كان، وضرورة احترام القانون والدستور، فيقول مثلا لهوفمان عميل السى آى آيه: " أنت من أصول ألمانية، وأنا من أصول آيرلندية، والشيء الوحيد الذي يجعلنا أمريكيين هو التزامنا بنفس الدستور".
هذه العبارة هي الفيلم كله، لأنه تعنى ببساطة أن الأمريكي يستحق جنسيته بتمسكه بالقيم التي صنعت مجتمعه، وليس بالوراثة، ومن خلال هذا التمسك فحسب ستنتصر أمريكا في معاركها الكبيرة والصغيرة، وهو ما سيحدث فيما بعد في نجاح صفقة تبادل الجواسيس، وقبل كل شيء هناك تلك العبارة التي قالها دونافان وهي: " كل إنسان جدير بالأهمية"، والتي يرى الفيلم أنها تمثل إحدى القيم التي يقوم عليها المجتمع الأمريكي.
توم هانكس أو دونافان هو الذي يتصدر الأفيش وخلفه العلم الأمريكي، هو الذي يمثل هذه القيم، وهذا التمسك بالقيم ليس مجرد شعارات مثالية، وإنما سيكون له مردود براجماتي، عندما ينجح المحامي دونافان في استرداد الأسرى الأمريكيين، وتخبرنا عبارات النهاية بأن الرئيس كنيدي قد استعان به في مهمات أخرى مماثلة في كوبا. هذه القيم ليست أخلاقية وحسب، ولكنها مفيدة أيضا، فقد صنعت للمحامي مصداقية واحتراما لدى الأعداء، مما ساهم في إنقاذ مواطنين أمريكيين.
يجب علينا أن نلاحظ أن دونافان سيقوم بمهمة تبادل الجواسيس "كمواطن أمريكي"، وبدون أي صفة رسمية، أي أن الحكومة الأمريكية بعيدة عن الصفقة، وإن كانت هي وراءها. السيناريو الذكي الذي بدأ بمحام يتم تكليفه من نقابة المحامين بالدفاع عن جاسوس سوفييتي، أصبح الآن (بفضل التزامه بالقيم الأمريكية) وكيلا عن الوطن نفسه، بل إن تعبير "مواطن أمريكي" يكتسب هنا دلالته العظمى، وكأن دونافان الوحيد الذي يستحق هذا اللقب (راجع حواره مع هوفمان ممثل مكتب التحقيقات)، وهكذا يتحول الدفاع عن قيم صنعت الوطن، الى دفاع عن الوطن نفسه، ويتحول محامي شركات التأمين السابق، الى محامي" تأمين" عودة مواطني أمريكا المعتقلين خارجها الى بلدهم.
لاحظوا هذا البناء الفذ للسيناريو: جسر واقعي وجسر بين رجلين بينهما ما بين الشرق والغرب، قضية دفاع عن عدو، تتحول بصنعة فن الى قضية دفاع عن وطن وقيمه، انتصار ونجاة للأمريكي والسوفييتي معا، والحرب الباردة التي تخرج في البشر أسوأ ما فيهم، تخرج منهم أيضا أشياء عظيمة، مثل حب الوطن، وأداء الواجب، وتكشف لنا بذكاء عن قطرات التشابه بين البشر وسط طوفان الاختلافات.
ما أروع تلك السيناريوهات العظيمة