جوني ديب وآمبر هيرد.. محاكمة السوشيال ميديا والقضايا الجندرية
سمو حسام الدين
نادراً ما يتمُّ بث المحاكمات على وسائل الإعلام، وحين يتخذ قراراً كهذا يكون متعلقاً بمحاكمات لها أهمية عند عامة الناس وتمس حياتهم بشكل مباشر، وهي في الغالب لسياسيين، كمحاكمتي حسني مبارك ومرسي في مصر. وترامب في أميركا الذي تمت الموافقة على بث محاكمته مؤخراً، ولكننا هذه المرة بصدد الحديث عن بث مباشر لمحاكمة سمع بها الجميع وهي بين ممثلين هما جوني ديب وآمبر هيرد.
المحاكمة تصدرت التريند العالمي، وكانت بالنسبة للناس أهم من القضايا التي تمس حياتهم بشكل مباشر، فكانت أكثر أهمية ب6 أضعاف من الحرب في أوكرانيا! و ب5 أضعاف من الحديث عن الإجهاض! فكيف ولماذا ركز الناس على هذه القضية وتجاهلوا قضاياهم؟ وهل أثر قرار البث المباشر على مصداقية المحاكمة؟
هل فضحت النظام الأبوي أم اضطهدت النسوية؟
من المؤكد أن المحاكمة أعادت إلى الواجهة القضايا الجندرية المروج لها بشدة في هذا العصر، والتي يتم تداولها بطريقة تخلق العداء بين الجنسين بما يزيد من التوجهات المثلية، فهل ساهمت المحاكمة بتعميق هذه الخلافات؟
وهل كانت شهرة ديب ومعجبيه سبيل نجاته؟
أهم ما في هذه المحاكمة أنها تشكل مثالاً هاماً لدراسة تأثير “السوشيال ميديا” على قضايا العصر الحديث، حيث الهاشتاغ الأكثر تداولاً قد يحسم المعركة. والحقيقة المشوهة والمجتزئة في “وسائل التواصل الاجتماعي” أصبح لها وزناً وكلمة فصل.
معركة يحسمها “الرأي العام” وليس القانون فهل هذا صحي؟
هل أثبت التاريخ أن الناس قادرون على إصدار الأحكام العادلة والواعية واتخاذ القرارات الصائبة أو حتى اختيار الأفضل وانتخابه؟
إن جولة سريعة على الحقائق المخفية خلف أقنعة أنظمة الحكم الديمقراطي في العالم ستكشف أن الديمقراطية دمية يحسن إدارتها قلة، وينساق فيها العامة الذين يتم استغلالهم في الدول “المتخلفة” باستلاب القرار بالتخويف والترهيب، وفي الدول “المتقدمة” من خلال ألعاب وعروض دعائية وإعلامية تدار بذكاء من قبل من درس وخبر علم نفس الإنسان وطرق التحكم بالسلوك الإنساني والتأثير على الجموع البشرية.
في هذه القضية أظهر غالبية الناس انحيازاً دون دليل وحتى قبل صدور الحكم!
وجميع”المؤثرين” المختصين وغير المختصين تحولوا للحديث عن المحاكمة ليجنوا مليارات الدولارات من منشوراتهم. جدالات وسخرية وشتائم وحسابات روبوتية تعلق وتتفاعل مع القضية.
تحول فيها الإنسان إلى مجرد “موضوعة ” لهم الحق في الحكم عليه والسخرية منه وتناول أفعاله ومجريات حياته كما يحلو لهم، إذ نشر الجميع (بما في ذلك الحسابات الآلية الروبوتية) آرائهم.
كيف نعطي لحكمنا صوابية تنبع من رأينا الخاص والانفعالي في كثير من الأحيان؟ متى أصبح من المنطق أن أعتقد بأنه طالما هذا رأيي فأنا على صواب؟
محاكمة “ديب – هيرد” أظهرت مدى تدهور السلوك الإنساني، إذ نسمح لأنفسنا بتجاهل إنسانية الآخر وانتهاك خصوصيته وحريته كما يحلو لنا بدافع السعي للشهرة والمال وتحت غطاء “حرية التعبير” في حين هي “حرية انتهاك”.
ثم ماذا حدث للخصوصية وحمايتها وقد تم عرض كل تفاصيل حياة شخصين على الهواء مباشرة؟ الكثير من الأسئلة التي أثارتها هذه المحاكمة بقيت دون إجابة.
فدعونا نعيد حكاية القصة من البداية .. بداية القصة ..
بداية القصة كانت مع وقوع جوني ديب في غرام آمبر هيرد التي تصغره ب 23 عاماً, والتي كانت اتهمت في علاقة سابقة باللجوء إلى العنف. وكما نعلم، كثيراً ما يكون الوقوع في الحب مشكلة، وبالنسبة لجوني ديب – وربما لكلاهما – كانت هذه بداية المشكلة.. الحبيبان كانا قد تقابلا للمرة الأولى أثناء تصوير فيلم the rum diary . فهجر ديب عام 2012من أجلها أم أطفاله باردايس بعد علاقة استمرت 14 عاماً. وأكمل في علاقته مع هيرد 3 سنوات ليتزوجا في 2015، وعبرا في بداية الزواج عن سعادتهما الغامرة، هذه السعادة الغامرة نفسها هي التي انتهت بعد 15شهراً بطلب آمبر الطلاق، ومنذ ذاك الحين تحول الزواج والحب المزعوم إلى فضائح وحروب قضائية معلنة.
في 2 أكتوبر 2020 خسر ديب دعوى على صحيفة وصفته بالمعتدي على النساء، فقرر في 2022 أن يقاضي هيرد مطالباً بتعويض قدره 50 مليون دولار بسبب مقال قالت فيه أنها ضحية العنف المنزلي، تسببت تلك المقالة بخسارة ديب دوره الشهير في “قراصنة الكاريبي” “كابتن جاك سبارو”. فاتهمها ديب بتشويه سمعته. ردت هيرد بطلب تعويض 100 مليون دولار عن العنف المنزلي الذي كانت تتعرض له من ديب.
انتشرت الفضائح مع المحاكمة، وتشكل رأي عام متعاطف بغالبيته مع ديب ضد هيرد، فوصل التفاعل إلى 15 مليار مشاهدة على هاشتاغ العدالة لديب. بينما هاشتاغ العدالة لهيرد لم يحقق سوى 29 مليون مشاهدة فقط ! وطالب البعض باستبعاد هيرد من فيلمها الجديد أكوا مان، واعتبروا بكائها تمثيلياً. وقالت طبيبة نفسية في المحكمة أن آمبر تعاني من الشخصية الحدية والهستيرية.
ثم فجر ديب قنبلته حين اعترف بتعرضه للتعنيف من قبل هيرد (التي قطعت له إصبعاً!) فهل حقاً يمكن أن يكون الرجل ضحية للاعتداءات والعنف المنزلي؟
يبدو أن الإجابة نعم، بالرغم من أن المرأة غالباً ما تكون هي الضحية في العنف المنزلي، لكن هناك حالات معاكسة، فمثلاً في مصر توجه رجل إلى محكمة الأسرة لرفع دعوى قضائية يطلب فيها الطلاق، لأن زوجته تضربه في الدعوى رقم 245 أحوال شخصية بمحكمة الأسرة.
من ناحية فنية كان في هذه المحاكمة نوعان مختلفان من الأداء التمثيلي، فآمبر اعتمدت مدرسة تمثيلية كلاسيكية قديمة، يعتمد الأداء فيها على المبالغة والمباشرة في إظهار العواطف، وهو ما لم يعد رائجاً هذه الأيام وبالتالي لم يتقبله الجمهور فأكدت بذلك موت هذه المدرسة.
بالمقابل قدم ديب أداءً واقعياً رائج حديثاً, يعتمد على روي الحدث بهدوء وثبات انفعالي دون تنميق ولا استطراد ولا استعطاف، مما جعل المشاهد يعتقد بصدقه ويتعاطف معه ومع إدمانه خاصةً بعد أن قدم القصة العائلية المتسببة به، وأحضر شقيقته كشاهد لتزيد من تعاطف الجمهور معه وتدفعهم للتصديق في لعبة العواطف هذه.
وفي الحقيقة يصعب تحديد الصادق بينهما فكلاهما ممثل كيف يمكننا التأكد من صدق أيٍّ منهما؟ بل كيف يمكن التأكد من صدق أيٍّ كان؟ والكثير من الأحداث الواقعية أظهرت إلى أي مدىً يمكن لأي شخص أن يصدِّر للآخرين صورة معاكسة لحقيقته.
فهل كان من الطبيعي أن يتمادى الناس بقسوتهم وأحكامهم على هيرد حتى لو كانت كاذبة هل يحق لهم أن يهددوها هي وابنتها؟
ثم ما الذي يحكم القانون ويسيره؟
في بلد كأميركا, البلد التي افتعلت حرباً وقائية، في العراق وأفغانستان، وتعتمد قانوناً وقائياً تتم فيه المحاسبة على الكلمة قبل الفعل، وعلى الفعل الصغير قبل الكبير، قانون يحاول أن يستبق الجرم. ويعتبر الضرب بجانب شخصٍ ما -الضرب بجانبه وليس ضربه- يعتبر إساءةً لهذا الشخص وتهديداً لسلامته. ومع ذلك لا يسلم قانونهم من الانتقاد، إذ يجده الكثير غير عادلٍ ومنحاز، بل وتمثيلي يفتعل فيه المحامون الكثير من حركات الاستعطاف والاستمالة والتلاعب العاطفي التمثيلية.
والسؤال الحاضر مع التغطية الضخمة التي حظيت بها المحاكمة هل تمكنت هيئة المحلفين حقاً من الامتناع والابتعاد عن السوشيال ميديا كما تعهدت لئلا تتأثر بما يبثه الناس العاديون في قضية كانت تبث في كل الشوارع والمقاهي.
إن لب العدل في القضاء يعتمد على تحييد المشاعر، واعتماد الحقائق المثبتة، وفي هذه القضية هناك حقائق تم تغييبها مما سهل لجوني ديب ربح القضية، فهل يدرك جمهوره أنه تم إثبات اعتداء جوني ديب على آمبر هيرد في 12 حادثة من أصل 14؟
وهل لاحظوا أن معظم شهوده كانوا من العاملين لديه؟ صحيح أنهم تحت القسم، لكن لا نستطيع أن ننكر ضغط فكرة حفاظهم على عملهم وعدم خسارته، فمن الصعب أن يحيدوا ولائهم ويكونوا موضوعيين.
إن ما أظهرته هذه المحاكمة من حقائق عن الإنسان وسلوكه في عصرنا أهم من المحاكمة ذاتها.
ومن السخرية أن كل من جوني ديب وآمبر هيرد تصالحا بعد المحاكمة, فهل تبخر أثر محاكمتهما عن الناس كما تبخر خلافهما؟
حتى وإن لم يكن من أهداف هذه المحاكمة العلنية تعميق الانقسامات الجندرية فمن المؤكد أنه كان من نتائجها. إذ اعتبرت “الحركة النسوية” خسارة هيرد المحاكمة ضربة لقضاياهم وحقوقهم.
بعد كل ما سبق إن أفضل ما نقوم به هو محاولة تحييد العواطف والانفعالات, وعدم الانسياق وراء موجات التشهير والحكم على الناس. ومن المهم أيضاً إن لم نكن سنحترس من الوقوع في الحب فعلينا على الأقل أن نختار بعناية شخصاً نمضي حياتنا معه بعيداً عن الفضائح والقضاء.