رأي

ديزني تكشف لك نفسك قلبًا وقالبًا

محمود المصطفى

يُضرب المثل على الشخص المميز ذو الهمّة والذكاء حين يحدث معه عكس ما كان متوقع منه “لكل جواد كبوة”، وهو ما ينطبق على شركة والت ديزني، أهم شركات انتاج أعمال التحريك في العالم، فما زالت ديزني تستطيع إبهارك بسحر أفلامها مهما عانت من كبوات.

فيلم “Inside Out” أو “قلبًا وقالبًا”، في رأيي واحد من أهم أفلام تاريخ ديزني على الصعيدين الجمالي والفكري، في محاولتها المعتادة على أنسنة الأشياء، تجسد لنا في تلك التجربة الصفات الشعورية على هيئة شخصيات لتكون المرة الأولى من نوعها أن تشاهد فيلمًا أبطاله من “المشاعر” وليسوا بشرًا أو كائنات، من خلال الخوض في أفكار وشعور الطفلة الصغيرة “رايلي” والاضطرابات التي تواجهها.

صُنّاع الفيلم طرحوا رؤية فلسفية للغاية عن الطريقة التي تنشط بها أفكارنا  ومشاعرنا، من خلال الطفلة الصغيرة “رايلي” التي نشاهد في الجزء الأول الذي صدر في يونيو 2015 قصة ولادتها حتى إتمامها لسن الحادية عشر من عمرها وانتقالها مع أسرتها إلى مكان جديد تاركة وراءها ذكرياتها التي كونتها، وتبدأ معها الاضطرابات النفسية التي تشعر بها، من خلال خمس تيمات شعورية، وهم: فرح وحزن وغضب وخوف واشمئزاز، بألوانها وأشكالها المتفاوتة والتي تبدو دلالاتها واضحة تمامًا. وينطوي الجزء الأول على مأزق رايلي في معاناتها مع المكان الجديد ومحاولة هذه المشاعر داخل دماغها بعمل خطوات دفاعية لينقذونها من عبث أفكارها حتى لا تقع في بئر الكآبة، فنشاهد تفاصيل رحلة “الشعورين” -الأبطال- فرح وحزن، بعد ضياعهما بعيدًا عن لوحة التحكم الأساسية في دماغ رايلي.

أما الجزء الثاني والذي صدر مؤخرًا في دور العرض هذا العام، فيتناول حياة رايلي الجديدة بعد وصولها سن البلوغ واتمامها العام الثالث عشر من عمرها، وتبدأ مراهقتها بمجموعة من المشاعر الإنسانية الجديدة، التي تجتاح عقلها، وتؤثر على علاقاتها مع أسرتها وأصدقائها وفريق الهوكي المنضمة إليه. وبالطبع نشاهد بزوغ مشاعر جديدة داخل عقل رايلي إلى أبطالنا السابقين في الجزء الأول، وهم: التوتر والملل والغيرة والإحراج.

الفيلم في عمقه مثيرًا للتأمل، يجوب في غياهب النفس البشرية وتجاربها الشعورية مهما كانت مضطربة، فما نراه ونشعر به أثناء متابعتنا للأحداث والمواقف بالفيلم يشدد على أهمية المشاعر كلها وليست فقط السعادة والبهجة من أجل سلامة النفس وتحقيق توازنها مهما كانت تقلبات الحياة. ويوضح لنا أن فهمنا واحتضاننا لتلك المشاعر معا ضرورة لازمة من أجل ضمان شعورنا بالأمان والاطمئنان. فكل شعور من هذه المشاعر المتباينة في نهاية المطاف يتجاور ويتواصل ويتفاعل مع الشعور الآخر. وهناك دائما -أو يجب أن يكون- نوعًا من المواءمة والتأقلم والرغبة في الإبحار معًا وسط أمواج الحياة المتلاطمة والسعى للوصول بالشخص إلى بر الأمان، وهذا هو المنتظر والمأمول.

وأجمل ما حققه الفيلم الأول وأكمله الفيلم الثاني تنفيذه المبهر وإخراجه بكل عناصره السينمائية التي وُظِّفت بإبداع يمتع المشاهد ويُداعب خياله، صغيرًا كان أم كبيرًا، بالإضافة إلى تسليط الأضواء على النفس البشرية والأحاسيس وهي تتحاور وتتناقش وتتصارع وتتصادم، وأحيانًا تتنافس وتتعارك من أجل فرض “شعور ما” ولو لفترة قصيرة داخل عقل الفتاة الصغيرة من أجل السيطرة على حياتها ومصاعبها. كإسقاطًا على حياة الإنسان عمومًا مهما كان عمره، ويجعلك تتسائل بعد مشاهدته: هل يستطيع المرء أن يتعايش مع المشاعر والأحاسيس التي تجتاحنا ويتقبلها كما هي دون أن يتصارع معها أو وأحيانًا يريد التخلص منها أو السعي لإخفائها بقناع أو أقنعة عديدة؟

أويما 20 - Uima20 | ديزني تكشف لك نفسك قلبًا وقالبًا

ولا عجب أن يحظى الجزء الثاني حاليًا بإقبال جماهيري كبير عالميًا لاسيما وأن صانعه أحد أهم مخرجي وكاتبي أفلام التحريك “بيتر دوكتير” الذي سبق وقدم “شركة المرعبين/ Monsters, INC” و”نحو الأعالي/ Up” وسلسلة “حكاية لعبة/ Toy Story”، فالفيلم يمثل عودة قوية لأفلام ديزني الانيميشن بعد سلسلة من الاعمال العادية والسيئة الفترة الماضية، آخرها الفيلم المئوي في أفلام ديزني السينمائية “أمنية/ Wish” العام الماضي. وأيضًا يعد الفيلم الأول من ديزني الذي يعرض مباشرة في دور العرض مدبلجًا باللهجة العامية المصرية بمنطقة الشرق الأوسط، بجانب نسخته الأصلية باللغة الإنجليزية، مما أضاف كثيرًا لقيمة الفيلم من ناحية الحوار والمفردات المصرية الفكاهية والخصبة.

الجزء الأول تكلف إنتاجه ما يقرب ١٧٥ مليون دولار وتجاوزت إيراداته قبل تسع أعوام حاجز الـ٨00 مليون دولار، ليصبح ضمن قائمة أكثر عشر أفلام تحقيقًا للإيرادات في تاريخ ديزني، وفاز حينها بجائزة أوسكار أفضل فيلم تحريك طويل عن جدارة واستحقاق،  أما الجزء الثاني قد تجاوزت إيراداته في الأيام الثلاثة الأولى لعرضه 300 مليون دولار. وكان قد تكلف نحو ٢٠٠ مليون دولار. ما جعل صناعه في ديزني وبيكسار التخطيط لتطوير القصة وتقديم جزء ثالث في السنوات المقبلة، وهو يعتبر تحد جديد وصعب، فكما رأينا طفولة رايلي ومراهقتها، من المتوقع أن نشاهد مرحلة نضوجها فيما بعد، وبالتأكيد سوف تنضم مشاعر جديدة كالأمل والحماس والحب والشهوة… فكيف ستقدم لنا ديزني وبيكسار فيلما قد يبدو للأطفال في تلك المرحلة الحسّاسة؟ لعلنا نتوق لهذه التجربة في السنوات المقبلة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى