نقد

سعاد حسني.. من عصر الحريم للمرأة “البطلة”

أسامة عبدالفتاح

ربما لم تكن سعاد حسني (26 يناير 1942 – 21 يونيو 2001)، وهي تقف أمام كاميرا هنري بركات لتصوير أول أفلامها "حسن ونعيمة" (1959)، تدرك أنها تكتب أول سطر في تاريخ جديد للسينما المصرية، فقد كانت في السابعة عشرة وكانت في طور تعلم كل شيء من الآخرين: القراءة والكتابة وقواعد التمثيل.. هذه هي المعلومات التاريخية الثابتة، لكن الحقيقة أن موهبتها الفذة وكذلك فطرتها السليمة كانتا تعلمان الآخرين البساطة والعفوية، وقبل كل شيء.. الصدق الكامل.

في مشهد بسيط لكن قوي الدلالة من الفيلم، تقف أعلى السلم، وهو أسفله. تنادي عليه، تهبط، تسعى إليه. لقد اختارته وقررت أن تخطو نحو تحقيق إرادتها وتنفيذ قرار اتخذته وحدها.. "سي حسن"، تذكر سحر الصوت الذي تنادي به على من اختاره قلبها بمزيج غريب من التلقائية والدلال والحسم، قوة لا قبل له بها تقتحم حياته وتملأها وتقتحم معها قلوب المشاهدين لتسكنها إلى الأبد.. إحساس ندى طازج لا يمكن أن تكون تعلمته من أحد، إنه ينبع من هذه الفطرة ويكتسي بتلك الموهبة، إنه زهرة تفتحت لتنشر أريجها فور أن وجدت الرعاية والأرض الخصبة.

أويما 20 - Uima20 | سعاد حسني.. من عصر الحريم للمرأة

كان هذا أول مشهد يجمعها – بشكل مباشر – مع "حسن" (محرم فؤاد) في الفيلم.. بعد قليل، تذهب إليه في بيته، في قرية أخرى، لتحقق ما تريد، بإيجابية وشجاعة، متحدية جبلاً من القيود والقوانين والتقاليد، وتكون المكافأة المستحقة في النهاية.. انتصار إرادتها. وأزعم أن هذا كان العمود الفقري لمشروع سعاد حسني السينمائي طوال مشوارها الفني: التعبير عن امرأة جديدة كانت بدأت تسعى لكسر قيودها والاعتماد على نفسها وفرض إرادتها بعد عقود من التبعية والانكسار كان فيها مصيرها بيد غيرها.

امرأة أفرزتها – وأؤكد أن ذلك بعيد تماماً عن التفسيرات الأيديولوجية المجانية – فورة الحلم القومي بعد انتصار واستقرار ثورة يوليو 1952، وانطلاق المرأة للمشاركة في مسيرة الحياة والنماء، حتى لو كان اتضح بعد ذلك أن الحلم كان وهماً، وأن من صدقوه وصعدوا معه إلى السماء، كان سقوطهم على الأرض – عند اكتشاف الحقيقة – مدوياً.

أويما 20 - Uima20 | سعاد حسني.. من عصر الحريم للمرأة

كانت سعاد حسني نقطة تحول رئيسية من عصر "الحريم" في السينما المصرية – مع بعض الاستثناءات بالطبع – إلى عصر المرأة الفاعلة المؤثرة، المرأة البطلة، لا بمساحة دورها في السيناريو، ولكن بحجم قيادتها دفة الأحداث، وإيجابيتها، وتأثيرها، حتى لو كانت في وقت من الأوقات تحولت إلى بطل "ضد" مأزوم، غير متكيف مع مجتمعه، لكنه يظل دائماً ممسكاً بتلابيب مأساته.

كان دورها الحقيقي كممثلة أن تعبر عن هذا التحول، الذي صار بعد ظهورها تياراً تقوده ووراءها الكثيرات. هذا الدور، الذي سيبقى للتاريخ وسيذهب كل ما عداه، هو عصب إنجاز هذه الممثلة الفذة، ويمثل قيمتها الحقيقية كفنانة، من خلال الشرائط السينمائية التي تركتها، بعيداً عن كل الكلام المستهلك والبديهي عن نجوميتها وموهبتها وشخصيتها. إنها ممثلة استطاعت باقتدار أن تعبر عن حلم جيل كامل، وأجيال تالية، وتحولات أمة في حالة مخاض، وتقلبات مجتمع أعيد ترتيب فئاته وشرائحه، وتغيرت كل قيمه ومبادئه.

أويما 20 - Uima20 | سعاد حسني.. من عصر الحريم للمرأة

لقد كان ظهورها في أواخر الخمسينيات إيذاناً بنهاية عصر ممثلات المجتمع الأرستقراطي، وحتى البورجوازي، اللاتي كان أداؤهن لا ينسلخ عن قيم وموروثات هذين المجتمعين حتى وهن يلعبن أدوار الفلاحات، لتبزغ نجمة صاعدة من بين صفوف الشعب، وناطقة بلسانه، ومكتسية بملامحه، ومعبرة عن آماله وطموحاته.. وسواء كان ذلك مقصوداً أو لا، فإن ظهورها لأول مرة في هذه القصة الشعبية الآسرة كان موفقاً تماماً، وساهم في إطلاقها إلى مدارها الصحيح كنجمة من الشعب وللشعب.. فتلك العفوية التي أدت بها دور "نعيمة" جعلت جمهورها يشعر بأنها واحدة منه، ليتحول فعل الفرجة إلى المشاركة، والانبهار إلى الفخر، والمشاهدة إلى التلقي الكامل.

أويما 20 - Uima20 | سعاد حسني.. من عصر الحريم للمرأة

وساعدها على ذلك بلا شك.. أداؤها التمثيلي المذهل، الذي أنهى عصر التمثيل من الخارج، من السطح، ليعلن بداية عصر الصدق والتعايش مع الشخصية. قبل سعاد حسني كان الجمهور يجلس ليشاهد النجمة فلانة في دور فلانة، وطوال مدة العرض يتابعها وهي تؤدي هذا الدور، ويتعجب للتغيرات التي طرأت عليها، سواء بالسلب أو الإيجاب، لكنه أبداً لا ينساها أثناء فعل الفرجة.. أما مع سعاد حسني، ومع فعل المشاركة، فقد كانت في كل فيلم هي الشخصية، في تطابق كامل قلما وصلت إليه ممثلة.. وحتى لو أجهدت نفسك بالبحث عنها أمامك على الشاشة لكي تتعرف على ما طرأ عيها، فلن تجدها، لأنها ببساطة غير موجودة، وليس هناك سوى الشخصية، وينطبق ذلك حتى على أفلامها الهزلية.

أويما 20 - Uima20 | سعاد حسني.. من عصر الحريم للمرأة

وهكذا ساهمت – عبر مشوارها الطويل – في تعميق ثقافة التلقي عند المشاهد، وتغيير فكرته أصلاً عن التمثيل، وساعدها على ذلك أدواتها وقدرتها الفذة كممثلة، وعلى رأسها التعبير بالعينين، وبكل عضلات وخلجات الوجه، بما يغني أحياناً عن أي كلام.. تأمل مثلاً المشهد الأخير من تحفة كمال الشيخ "غروب وشروق" (1970). تقف في النافذة وتزيح الستارة قليلاً لكي تتابع – بعينين مبتلتين بالدموع – زوجها وصديقه (رشدي أباظة وصلاح ذو الفقار) وهما يغادران حديقة القصر بعد نهاية والدها وتدمير حياتها هي بالكامل.. عيناها تلخصان المأساة كلها من دون كلمة واحدة.. بعد خروجهما، تسحب يدها لتنسدل الستارة بسرعة على حياتها وعلى الفيلم كله.

أويما 20 - Uima20 | سعاد حسني.. من عصر الحريم للمرأة

هذه اللقطة البارعة، التي لا تنهي الفيلم فقط بل تنهي عصراً كاملاً وتعلن بداية عصر جديد، تظهر إلى أي مدى يمكن أن تعبر سعاد حسني بعينيها أفضل من الحوار، وهو ما تكرر في مئات اللقطات الأخرى عبر تاريخها السينمائي.. وبعد عامين فقط من إسدال الستار على بطلة "غروب وشروق" المستهترة التي تدفع ثمن استهتارها غالياً في العهد القديم (ما قبل الثورة)، ترفعه سعاد حسني عن النموذج الذي يجب أن تكون عليه الفتاة في "العهد الجديد".. حيث تتعلم، وتعمل في الوقت نفسه لمساعدة والدتها – حتى لو كانت راقصة، وتكافح لكي تحصل على من اختاره قلبها، لكن من دون أن تتنكر لأصلها ولأهلها، ومن دون أن تنزلق أخلاقياً.

في "خلي بالك من زوزو" (1972)، التقت موهبة سعاد حسني الفذة مع عبقرية صلاح جاهين المدهشة لتقديم أنجح فيلم في تاريخ السينما المصرية، بغض النظر عن التحفظات الفنية عليه. وهذا اللقاء المشهود، الذي تطور فيما بعد إلى صداقة وارتباط في المصير بين العبقريتين، أسفر في هذا الفيلم عن نتائج مذهلة فيما يخص مدرسة البساطة والعفوية التي تنتمي إليها سعاد حسني منذ بداياتها، والتي يعد صلاح جاهين – لكن بطريقة أخرى – أحد أساتذتها.

أويما 20 - Uima20 | سعاد حسني.. من عصر الحريم للمرأة

ومن هذه النتائج، القدرة الفائقة التي أدت بها سعاد جمل صلاح الحوارية التي حملت – رغم بساطتها – أبعاداً فلسفية شديدة العمق وأضفت عليها سحرها الخاص.. تذكر مثلاً مشهدا بسيطاً للغاية أعقب المحاضرة التي ألقاها المخرج المسرحي (حسين فهمي) في الكلية التي تدرس فيها "زوزو". يخرج من المبنى ويبحث عن سيارته، فتقترب منه هي وتقول له: "هناك أهه"، وتشير له إلى مكان السيارة، وعندما يبدي دهشته تقول: "عيب إن الواحد يجاوب على سؤال ما اتسألش؟ طب واللي ما يجاوبش على سؤال اتسأل؟"، فقد كانت سألته "من أنت؟" في المحاضرة ولم يجب.

وتفسير هذا التصرف موجود في الفيلم نفسه، فهي تقول في أحد المشاهد بطريقتها وبطريقة صلاح جاهين معاً: "وما نيل المطالب بالتمني إنما تؤخذ الدنيا (كدهه)".. ألا يذكرك ذلك بشيء؟ إنه نفس سعي "نعيمة" لمن قررت أنه لها، وإنها الرغبة نفسها في تحقيق الإرادة رغم الصعوبات والمعوقات، ورغم كل الفروق الاجتماعية والطبقية.. فـ"نعيمة" التي دافعت عن مهنة "حسن" المغنواتي، هي نفسها "زوزو" التي دافعت عن مهنة والدتها وسعت للصعود الاجتماعي عن طريق شريف: الدراسة.

هذه هي سعاد التي أسعدت الملايين، وحملت صناعة السينما على كاهلها فترة طويلة، وكانت نقطة تحول بين عصرين وبين نمطين في التفكير وفي العمل، وقلبت صورة المرأة في السينما،… وكانت أروع من أخذ الدنيا "كدهه".

أويما 20 - Uima20 | سعاد حسني.. من عصر الحريم للمرأة أويما 20 - Uima20 | سعاد حسني.. من عصر الحريم للمرأة أويما 20 - Uima20 | سعاد حسني.. من عصر الحريم للمرأة أويما 20 - Uima20 | سعاد حسني.. من عصر الحريم للمرأة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى