رأي

“عتبة البيت” في الثقافة الشعبية

د. محمد حسن عبدالحافظ

مثَّلت "العتبة" (جمعها "عَتَبَات" و"أعتاب" و"عَتَب") رمزًا يختزل البيت الإنساني، بل يختزل الإنسان نفسه، وبرزخًا بين فضاءين مكتنزين بالأسرار والخفايا، وعلامةً من علامات الانتقال والعبور، وفصلاً بين المجال المصون والمجال المستباح، ووصلاً بين الخاص والعام؛ بين العالم الإنساني الداخلي وعالم الكون الفسيح، بل صارت مفهومًا مجازيًّا لمستهل كل شيء ونهايته، واحتلت وضعًا مركزيًّا في كثير من الثقافات الشعبية الإنسانية، فاتصلت بها معتقدات وطقوس وممارسات لافتة، وجملة من الآداب والأفـعـال المقنَّنة، تنوعت بين الشعوب، ووصلت إلى حدّ القداسة المتجذرة في الأسطورة. 

مذ سكن الإنسان في الخيام والأكواخ والمغارات، اعتقدت شعوب كثيرة في أن هذه العتبة يجب ألا تطأها قدم، إذ كان يبني حاجزًا مرتفعًا عند المدخل؛ لكيلا تزحف الحشرات ليلاً، فتؤذي الراقدين في سلام. ومن هنا، نشأت العلاقة بين عدم وطء القدم على العتبة وسلامة أهـــل البيت وجلب السعد. وفي هذا الشأن، ثمة عادات شعبية تمارسها شعوب عدة في العالم، مثل عادة نزع حذاء العروس عند بلوغ العتبة، ووضع رجلها اليمنى في دلو مملوء بماء بارد، وقيام العريس بحمل العروس والمرور بها إلى البيت من فوق العتبة، وتناول العروسين لقطعة خبز مع الحليب قبل بلوغ العتبة. 

ويضعون وعاء من الفخار بعد ملئه بالتمر على عتبة باب البيت لترفسه العروس برجلها حين دخولها عش الزوجية مجلبة للرزق والتوفيق لها ولأهل دارها.  ويُعتقد في أن وقوف المرأة العقيم على عتبة باب البيت الذي ستدخل إليه العروس الجديدة يذهب بعقمها، ويجلب لها إنجاب الذكور. ولاتزال عادة ذبح الأضحية على عتبة البيت تمارس إلى اليوم في كثير من البلدان، وغير ذلك من العادات والطقوس. وعلى عتبة البيت، تنهض ممارسات أخرى في بعض البلاد؛ إذ يُدفن تحت هذه العتبة الطفل المولود ميِّتًا؛ لتعبر من عليه الأم ذهابًا وإيابًا، وبذلك تصعد روحه مرة أخرى فيها، فتلده مرة ثانية في صورة طفل جديد كما تُعرف عادة دفن "خلاص" الطفل عند الولادة على عتبة البيت، وكان القبائل القديمة تعتقد في أن هذا الخلاص أو المشيمة يمثل طفلاً توأمًا يولد ميتًا.

وللعتبة قوى خفية تحميها، بدونها تستحيل مصدرَ شرّ وشقاء، والاستقرار بمنزل سيّء العتبة لا ينتهي إلاّ بوخيم العواقب. لذلك، ترتفع قيمة المكان بارتفاع القيمة الرمزية لعتبته، ولا تُستثنى المحلاّت التجارية والحرفية من هذه القاعدة؛ إذ كثيرًا ما يؤدي سوء عتباتها إلى انهيار المشاريع المرتبطة بها عبر السرقة أو الإفلاس أو كساد التجارة.

ووفقًا لبعض الثقافات، تعد العتبة السفلى ملجأً للأرواح الشريرة التي تتخذ من هذه العتبة مسكنًا لها، وهي أيضًا محل نظر العيون الباحثة عن فريسة تصيبها بما تيسر من الشرّ. أما العتبة العليا، فهي ملاذ الذي يؤمِّن الحماية لسكان البيت من شر حاسد إذا حسد، توضع عليها رموز دينية، أو تعلق يد (خمسة وخميسة)، أو حدوة حصان، أو خرزة زرقاء، أو قرون كبش أو غزال أو ثور، أو "فرد شبشب"؛ بقصد تأمين الحماية لسكان المنزل من سكان العتبة السفلى، ومن العالم الخارجي، ولاتزال العتبة السفلى لدى بعض الجماعات الإنسانية هدفًا لوضع أوراق مكتوبة، أو دفن عظام، أو رش ماء؛ لإلحاق ضرر أو نفع بأصحاب البيت.

أما على صعيد المجتمع الإماراتي، فقد عرف الإماراتيون باعتدالهم ونفورهم من التطرف في اعتناق المعتقدات وممارسة الطقوس بشأن العتبة. وكانت البيوت التقليدية الإماراتية تشيد وفقًا لمنظور متسق مع البيئة والطبيعة والمعتقد الديني، إذ حرص الإماراتيون على أن تكون عتبة البيت مقابلة لشروق الشمس، كما استحسنوا بعض عادات الشعوب الأخرى المتصلة بالفؤول، كذبح خروف عند عتبة البيت الجديد، وعدم كنس أثر الضيف على العتبة بعد ذهابه خشية ألا يعود. 

وتعد المرأة أبزر دلالات العتبة، وثمة حكاية عُرفت في التراث الشعبي الإماراتي لها مرجعها في التراث الديني القديم، تؤكد على أن ظهور تعبير "عتبة الباب" جاء كناية عن المرأة، في سياق الكرم والبخل، إذ ورد في المأثور أن نبي الله إبراهيم (ع) عندما ذهب إلى بيت ولده إسماعيل وجد زوجته فقال لها: أين زوجك؟ فقالت: ذهب يتصيّد، فقال لها هل عندك ضيافة؟ فأجابت: ليس عندي شيء وما عندي أحد، فقال لها: إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام وقولي له: فليغير عتبة بابه، ثم ذهب. 

وجاء إسماعيل (ع) ووجد ريح أبيه، فسأل امرأته: هل جاء أحد؟ فقالت جاءني شيخ وقال لي: اقرئي زوجك السلام وقولي له: فليغير عتبة بابه، فطلقها وتزوّج بأخرى. فلبث إبراهيم زمنًا ثم زار ابنه، فسأل امرأته: أين زوجك؟ فقالت: يتصيّد وسيأتي عمّا قريب، فقال: هل عندك ضيافة؟ قالت: أجل، فجاءت باللبن واللحم، فدعا لها بالبركة، ثم ودعها وقال لها: إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام وقولي له: قد استقامت عتبة بابك، وأوصيك بها خيرًا.

محمد حسن عبدالحافظ
رئيس قسم الدراسات والبحوث بمركز التراث العربي- الشارقة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى