«عن الآباء والأبناء» ذاكرة عن وطن تغيرت معالمه
نوار عكاشه
تبقى كوابيس الإنسان مرافقةً لهُ أينما حلَّ ومهما حاول الابتعاد عن مصادرها، فهي نتاج تفاعلٍ تمّ بالإكراه بين فطرته وأفكاره وتجاربه مع أقدارٍ قاتمة فرضت نفسها عليه وعلى محيطه، وتبدو فكرة أن تكتب كوابيسك كي لا تعود مجدداً؛ منطقية وتستحق التجربة.
تلك الفكرة التي دفعت السينمائي السوري «طلال ديركي» (1977) لخوض مغامرته الكبيرة عملاً بنصيحة والده للتخلص من أرق وسطوة كوابيسه، فَاتجه نحوها وخاض غمارها ليقدم فيلمه الوثائقي الطويل «عن الآباء والأبناء» (2018 ، 96 د) الحاصل على أكثر من 40 جائزة والمشارك في حوالي 120 مهرجاناً دولياً حتى الآن، ابتداءً من جائزة «لجنة التحكيم الكبرى لأفضل وثائقي أجنبي» من مهرجان صندانس السينمائي 2018، حتى ترشحه لأوسكار 2019 ضمن فئة أفضل فيلم وثائقي طويل.
تتفاضل الأفلام الوثائقية بما تقدمه من واقعية وصدق ومدى التزامها بِالموضوعية، أيقن ديركي ذلك بِخبرته (خرّيج «معهد ستافراكوس العالي لفنون السينما والتلفزيون» 2003 في أثينا، فيلموغرافيا: 4 أفلام روائية و2 وثائقية)، فَودع زوجته وابنه وتوجه نحو الشمال السوري ليسكن إحدى قرى ريف ادلب الخاضعة لسيطرة التنظيمات الإسلامية المتشددة بقيادة «جبهة النصرة» أو ما سُمّي لاحقاً «جبهة تحرير الشام»، وأقام بينهم ما يقارب العامان ونصف متحايلاً عليهم بادعائه أنّه مصور حربي معجب بالفكر الجهادي قَدِم إليهم لرغبته بصناعة فيلم عن نضالهم.
ليكتب بمغامرته المجنونة كوابيسه عن العصر الذهبي للسلفية الجهادية في وطنه، وليقدم في النتيجة وثيقة سينمائية استثنائية ونادرة تفوقت وتميزت ولو غير متعمدة في شمولية إدانتها للتعصب لدى كافة أطراف الصراع السوري، وعابت ماضي وحاضر ومستقبل تعصبهم، وحمّلتهم وزر الموت والدمار بما كان وما أصبح وما سيحصل، وتعدت ذاتية الحالة إلى شمولية تلامس التطرف أينما وُجِد في هذا العالم.
فالفكرة المطروحة في الفيلم عن سطوة الآباء الجهاديين على أبنائهم وتسييرهم وفق أهوائهم ومعتقداتهم وتهيئتهم ليصبحوا مقاتلين لنصرة الخلافة الإسلامية؛ طابقت في جوهرها حالات مشابهة موجودة منذ عقود في هذه المنطقة وبأشكال متنوعة للتعصب سواء الديني أو الحزبي أو الاجتماعي …، وما مشاهد الحياة اليومية لأطفال الفيلم سوى صورة مشابهة لما يحدث على عموم هذه الجغرافيا.
فكافة المناطق السورية اليوم وعلى اختلاف القوى المسيطرة عليها؛ ملأى أيضاً بِصور الأطفال المرتدين للملابس العسكرية التي اختارها لهم أباؤهم في تباهٍ أعمى بِالموضة الدارجة، كما ألعابهم بالبنادق البلاستيكية وخوضهم لِمعارك تمثيلة مرتجلة ما هي إلا انعكاس لتأثرهم بالحرب في أجوائها وأدواتها، وليست الحكومات أفضل حالاً، فَالتاريخ يشهد ولايزال على منظمات حزبية تعمل بصرامة ومنذ عقود على تعبئة الأجيال وتأطيرها فكرياً ونفسياً لصالحها، دون مراعاةٍ لمفهوم الطفولة والحق الإنساني في حرية الانتقاء والتوجه.
بتلك الإدانة الغير مباشرة للتعصب؛ اكتسب الفيلم قيمته، وسبب إحراجاً لكل متشدد مستميت لرأيه يرفض الاعتراف بكارثية نتاج تشدده الأعمى على الأرض والإنسان، وما كان اقتحام ديركي عقر دار السلفية سوى بحث عن الحقائق الصرفة والإجابات الصحيحة لأسئلة مشروعة عن منطق وطبائع هؤلاء الأشخاص المتشددين لِحلم الخلافة الإسلامية، ومصدر أفكارهم وأحلامهم المتنامية بقناعة راسخة لقيام دولة إسلامية، مبتعداً عن ما يقدم بِطرح كاريكاتيري من تقارير جوفاء وتصورات هشة لهذا المجتمع الغرائبي.
ويسجل ديركي مع مصوره المرافق له «قحطان حسون» حوالي 300 مقطع مادة مصورة، هي ملكية شرعية لِديركي يحق له التصرف بها ومونتاجها وفق السيناريو الخاص به، فكان منه أن انتقى علاقة الآباء بالأبناء في تلك البيئة المشوهة، في عودة لأصل المأساة، وفي العودة الحل لمن امتلك البصيرة والرغبة الحق بالخلاص.
يعتمد ديركي التعبير البصري ليقدم بلاغه السينمائي، ينتقي مشاهد فيلمه محققاً تجانساً محكماً بين حقيقة الواقع ودلالات فكرية مكتنفة في كل مشهد، ذلك دون أن يقحم أو يحاول تسيير المتلقي نحو رأي أو موقف سياسي محدد، يبتدئ الشريط بلقطة عامة لمنطقة نائية تتوسطها مجموعة من الأطفال يلعبون كرة القدم في سلام، وهو الوضع المفترض صحته لأصحاب الأعمار الصغيرة ذات الأرواح البريئة والأجساد الغضة.
لكن للكبار رأي مختلف، فَيظهر لنا «أبو أسامة» الجهادي السلفي جالساً مع أبنائه الثمانية ليُخبرنا سبب تسميته لهم بتلك الأسماء، فالابن الكبير «أسامة» وشقيقه «أيمن» حملوا أسماءهم تيمناً بِأسماء قادة تنظيم القاعدة؛ وهو يعبر عن محبته الكبيرة للقاعدة وقادتها قائلاً: "الحب الذي في داخلي لهذه الشخصيات؛ لو يُلقى به على كوكب الأرض لأطلقوا عليه اسم «كوكب الحب»".
يبدو الأب إنساناً طبيعياً حين يتحدث عن الحب، ويبديه لأولاده دوماً، يلعب معهم ويهتم بهم، ولكنه إنسان غير متوازن في منظوره للحب، معتقداته وما يعتنقه من أفكار سلفية؛ تدفعه لتوجيههم نحو الجهاد وتهيئتهم للمعارك نصرةً للدين رغم صغر أعمارهم، وهو ما يعيبه ويسقطه أخلاقياً وسلوكياً، تلك المفارقة في شخصية الأب السلفي مثيرة للاهتمام ويُحتسب للفيلم طرحها عن قرب لأول مرة، فَهو إنسان محب لأولاده، طيب ومبتسم، يناقش في السياسة ويبدي تصوره للمستقبل، كما أنّه قارئ مهتم بِكتبه، يتحدث عن الحب ويروي كيف استطاع تمييز رائحة ابنه عن بعد.
وفي غمرة روايته تلك عن الحب يطلق النار على جندي ليرديه جريحاً أو قتيلاً، مناقضاً الحب نفسه حين يسلب الحياة من أحدهم، وحيناً نراه يحادث رفاقه عن نيته الزواج وإنجاب الأولاد بالجملة وكأن المسألة بمفهومه لا تتعدى عملية ميكانيكية مجردة من العاطفة، كما لم تثنيه حادثة بتر قدمه إثر انفجار أحد الألغام بهِ عن مواصلة صنعه للمفخخات، وذبحه الأضاحي بِبرود وهو يتحدث عن الفداء.
أما ولداه «أسامة» و«أيمن» ورفاقهم من أطفال تلك المنطقة، فَهم على براءتهم ومحدودية خياراتهم، يمارسون حياتهم بِصورة طبيعية في بداية الشريط، يلعبون ويستعرضون شقاوتهم الساذجة في البيت والمدرسة والساحات، ولكن للبيئة المحيطة سطوتها، فألعابهم ألعاب مجازية للقتل والموت، منها البنادق الخشبية ومنها ذبح الطيور ومنها رشق الآخرين بالحجارة، يتعاركون ويشتمون ويصنعون المفخخات اليدوية حسب معرفتهم، ويتشربون ما يتم تلقينهم من الكبار من فكر إسلامي متشدد، ليدخلوا لاحقاً معسكراً جهادياً للتعليم الشرعي والتدريب القتالي، فَنراهم أطفالاً مجندين يرتدون ملابس عسكرية وأقنعة تحمل شعاراً إسلامياً، يتلقون دروساً عن القاعدة وفضائلها المدعاة، كما يتدربون على الأسلحة الفردية وتكنيكات المعارك.
لم تشفع لهم أعمارهم الصغيرة ولا مخاوفهم الفطرية من دخول ذلك المعسكر، فما هم إلّا أبناء تابعين ينساقون مرغمين وفق أهواء أبائهم ومعتقداتهم، حدودهم ضيقة كما تلك البركة التي يسبحون بها فرحين على جهلٍ بالمستقبل المظلم، فقد تحولوا إلى أرقام على قوائم جندية المعارك القادمة، وكم هي خاطئة وظالمة وغير آبهة تلك الأرقام في نتائج قسمتها بالمعارك التي سيخوضها «أسامة» بعد تفوقه في معسكره!، على عكس صحة وسلامة أرقام العمليات الحسابية التي يتعلمها ويتقنها «أيمن» في مدرسته بعد استبعاده من المعسكر لضعف بنيته وشروده الدائم، وكم هو موجع في مفارقته ما طلبته تلك الكائنات الفضائية في منهاج «أيمن» المدرسي عن تعلم الحب والفرح من سكان الأرض المتجاهلين لِتلك المفاهيم وهي سبيل خلاصهم.
مع انتهاء «أسامة» من مرحلة الإعداد؛ ينتقل إلى مرحلة القتل والقتال على طرقات الموت، إنّه مصيره الذي دفعه والده نحوه ليصبح جهادياً في هذه الحرب الطويلة، بينما ينهي ديركي كتابة كابوسه بعد أن عاشه حتى النهاية، ويعود إلى برلين بِذاكرة عن وطن تغيرت معالمه، لِيقدم فيلماً جدلياً في قضيته وصنعته، وثق بهِ تلك الدورة الوراثية للعنف والإرهاب في عمقها وهوامشها.
نقلا عن جريدة النور