عن ثنائية القهر/التمرد في أفلام المخرج عاطف الطيب (5-6)
خامسا : الإخراج
والعناصر الفنية والتقنية الأخرى
يصل بنا الحديث عن الإخراج والجانب التقني والفني في أفلام عاطف الطيب، فمن الملاحظ بأن هناك تبايناً واضحاً في أسلوب الطيب الإخراجي وفي المستوى الفني والتقني لأفلامه.. مما يوحي بأن الطيب لم يتبنى رؤية سينمائية فنية محددة وواضحة يحمِّلها جميع أفلامه، فيلماً بعد فيلم. هذا بالرغم من أن الطيب ـ كمخرج حرفي ـ قدم مستويات فنية تقنية جيدة، في كثير من الأحيان.. خصوصاً وأنه ـ في تعاونه مع فريق العمل الفني ـ قد كرر في أفلامه أسماء معروفة كل في مجاله.
فمثلاً في مجال التصوير تعامل مع سعيد شيمي في 8 أفلام، ومع عبد المنعم بهنسي في 3 أفلام، ومع محسن نصر وهشام سري في فيلمين لكل منهما. وفي مجال المونتاج تعامل مع نادية شكري في 10 أفلام، ومع أحمد متولي في 5 أفلام، ومع سلوى بكير في 4 أفلام. وفي مجال الموسيقى التصويرية تعامل مع مودي الإمام في 5 أفلام، ومع عمار الشريعي في 3 أفلام، ومع محمد هلال في 3 أفلام.
أما في التمثيل، فقد تعاون مع ألمع النجوم.. فمع نور الشريف قدم 9 أفلام، ومع أحمد زكي قدم 5 أفلام، وقدم لكل من: محمود عبد العزيز، نبيلة عبيد، ليلى علوي، ممدوح عبد العليم، ثلاثة أفلام. ومع كل هؤلاء الفنيين والفنانين، قدم عاطف الطيب مستويات فنية راقية، خصوصاً في مجال الأداء التمثيلي. إلا أن هذا لا ينفي بأن كل فيلم يقدمه يختلف عن الفيلم الآخر في الأسلوب والرؤية الفنية.
وبالرجوع إلى الببلوغرافيا، سنجد ـ مثلاً ـ بأن أفلام الطيب ـ في غالبية مشاهدها ـ تعتمد على التصوير خارج الأستوديو. ويأتي ذلك إما لأن التصوير خارج الأستوديو أقل تكلفة إنتاجية، أو سعياً للوصول إلى الصدق الفني وبالتالي الوصول إلى المتفرج بسهولة. ومهما يكن السبب في خروج الكاميرا من الأستوديو، فقد جاء ذلك في صالح العمل الفني عموماً.. حيث كانت الكاميرا تجوب الشوارع والأزقة بحركتها الحرة والملفتة، خصوصاً الكاميرا المحمولة منها، والتي أضفت نوعاً من الحركة على المشاهد بشكل عام.
ويتضح ذلك أكثر في أفلام (سواق الأتوبيس ـ الحب فوق هضبة الهرم ـ ملف في الآداب). أما بالنسبة للإضاءة، فقد كانت في كثير من الأحيان إضاءة درامية معبرة ومساهمة في خلق الجو الداخلي للمشهد (الغيرة القاتلة ـ سواق الأتوبيس ـ الزمار ـ البريء ـ قلب الليل ـ الهروب). على العكس من أفلام (التخشيبة ـ كتيبة الإعدام) مثلاً، حيث لم يكن للإضاءة دوراً مهماً وبارزاً في التعبير الدرامي، بل يمكن أن نقول عنها بأنها كانت إضاءة تكميلية فقط.
نصل الآن للحديث عن تكوين الكادر الجمالي، واختيار زوايا التصوير وحجم اللقطات، حيث نلاحظ بأن عاطف الطيب لم يكترث كثيراً بتكوينات كادراته الجمالية والشكلية، إلا فيما ندر. وبما أن أداة التعبير في السينما أساساً هي الصورة، فلا بد أن يكون هناك اهتمام واضح بهذه الصورة، والمقصود طبعاً الصورة الدرامية المعبرة. ففي غالبية أفلام عاطف الطيب (التخشيبة ـ الحب فوق هضبة الهرم ـ ملف في الآداب ـ كتيبة الإعدام ـ ضد الحكومة ـ دماء على الإسفلت) كان الموضوع الجيد والجريء طاغياً على كل شيء، أقصد ذلك الموضوع الذي أعتمد في الأساس على الحوار الكثيف والمباشر، وعلى عناصر أخرى غير الصورة في التوصيل، مما أدى إلى التقليل من أهمية لغة الصورة المعبرة وجعلها ضعيفة في كثير من الأحيان.
بل أن في بعض أفلام الطيب كان من الصعوبة بمكان الكشف عن أي ابتكار فني جمالي، يكفي لإفراز طاقات وإمكانيات فنية جمالية للعمل الفني. وبالتالي اختفى ذلك الدور التعبيري للصورة. ويتضح ذلك في أفلام (أبناء وقتلة ـ البدرون ـ الدنيا على جناح يمامة). وهذا الحديث ـ بالطبع ـ لا ينطبق على أفلام قليلة مثل (سواق الأتوبيس ـ الزمار ـ البريء ـ قلب الليل ـ الهروب ـ ناجي العلي ـ إنذار بالطاعة). ففي فيلم (سواق الأتوبيس) مثلاً، كان هناك تصوير أخاذ، وزوايا تصوير مدروسة بعناية، وإضاءة درامية موفقة غالباً.
وفي (الزمار) كانت حركة الكاميرا وزوايا التصوير في قمة تألقها، حيث وفق الطيب في إعطاء تكوينات جمالية للكادر في كثير من الأحيان، هذا بالرغم من أنها كانت تكوينات مبعثرة في زوايا الفيلم، ولم تكن تشكل أسلوباً واضحاً للإخراج. كذلك في (قلب الليل) حيث تميز التصوير بتكوينات جمالية رائعة للكادر، واستخدام موفق للإضاءة داخل المشاهد، وهي إضاءة درامية أعطت إيحاءً بالفترة التاريخية، وذلك باستخدام موفق للمرشحات المختارة من قبل المخرج ومدير التصوير، مما أضفى على المشاهد شفافية معبرة. إلا أن كل ذلك كان في النصف الأول من الفيلم، حيث افتقد النصف الثاني منه لكل هذا الإبداع.
وفي (ناجي العلي) هناك جهد ملحوظ وعالي المستوى في التصوير، حيث الاختيار الموفق لحجم اللقطات وزوايا التصوير، إضافة إلى الإضاءة الدرامية المعبرة، خصوصاً في المعارك الليلية التي اتسمت بالشاعرية الواقعية. أما في فيلم (الهروب)، فقد حقق التصوير والإضاءة مستوى عالياً من الحرفية، وخلقا الجو المتناسب مع الحدث الدرامي، كما نجحت الكاميرا في التعبير عن ذلك التوتر الدرامي بحركتها الحرة في الأماكن المغلقة أو بالاهتزاز المتوتر عند التصوير فوق سطح القطار مثلاً. وبالتالي تميز التصوير بتكويناته الجمالية القوية والمعبرة.. حيث كان هناك حقاً اهتمام بالجانب الجمالي في هذا الفيلم.
نأتي للحديث عن تجربة المونتاج في أفلام عاطف الطيب.. حيث أن لهذا العنصر أهمية كبيرة في السينما، باعتباره عامل حاسم في المحافظة على الإيقاع العام للفيلم، والتحكم في العلاقة بين التصاعد الدرامي للحدث وبين شخصيات الفيلم. ففي أفلام الطيب، نلاحظ ذلك التفاوت الفني لدور المونتاج وأهميته.. كما أن هناك تفاوتاً واضحاً في اعتماد عاطف الطيب على المونتاج من فيلم إلى آخر.
فمثلاً في بعض الأفلام التي قدمها الطيب (سواق الأتوبيس ـ التخشيبة ـ ملف في الآداب ـ ضربة معلم ـ كتيبة الإعدام ـ ضد الحكومة ـ دماء على الإسفلت)، كان للمونتاج دور مهم في الحفاظ على إيقاع تصاعدي لاهث وتشويقي متناسب والحدث الدرامي. وفي (ملف في الآداب)، نجد قطعاً سريعاً ولاهثاً يعتمد المونتاج المتوازي في التعبير الدرامي.
وفي (ضربة معلم) هناك مونتاج سريع ولاهث، ويتناسب وأسلوب التشويق والحركة الذي اتخذه الفيلم. وفي أفلام (ناجي العلي ـ ضد الحكومة ـ دماء على الإسفلت ـ إنذار بالطاعة)، نلاحظ مونتاجاً جيداً احتفظ بنبض الفيلم الدرامي وانفعالات الشخصيات. وفي المقابل هناك في أفلام (الغيرة القاتلة ـ الزمار ـ البريء ـ أبناء وقتلة ـ البدرون ـ قلب الليل) مثلاً، إخفاقات وتذبذب في مستوى المونتاج من مشهد إلى آخر، مما أدى إلى عدم السيطرة على إيقاع الفيلم العام.