عن ثنائية القهر/التمرد في أفلام المخرج عاطف الطيب (6-6)
حسن حداد
بالنسبة للموسيقى التصويرية في أفلام عاطف الطيب، فهي ـ بشكل عام ـ متوافقة مع الحدث وتعبر عنه. وعلى أقل تقدير، تكون ـ أحياناً ـ خلفية للحدث، إن لم تعبر عنه. كما يلاحظ في موسيقى أفلام الطيب، بأنها تتميز بالطابع الحزين المعبر، وتعتمد ـ غالباً ـ على نفخات الناي الحزينة أو آلة أخرى مصاحبة (سواق الأتوبيس ـ التخشيبة ـ الحب فوق هضبة الهرم ـ الزمار ـ ملف في الآداب).
وموسيقى أوركسترالية حزينة معبرة في أفلام (البريء ـ قلب الليل ـ الهروب ـ ناجي العلي ـ إنذار بالطاعة). أما في فيلمي (أبناء وقتلة ـ البدرون) فهناك استثناء، حيث كانت الموسيقى تقليدية صارخة، تتناسب والطابع الميلودرامي الذي طرحه الفيلمان. أما موسيقى الفنان مودي الإمام، والذي بدأ التعاون مع الطيب منذ فيلمه (قلب الليل) ومن بعدها في أفلام (الهروب ـ ناجي العلي ـ ضد الحكومة ـ دماء على الإسفلت)، فهي موسيقى حديثة جيدة وموحية، وتشكل نقلة في التعبير الدرامي للموسيقى في السينما المصرية عموماً.
ففي فيلم (الهروب) مثلاً، نجد موسيقى رائعة جداً، استطاعت أن تعمق الكادر السينمائي، وكانت جزءاً أساسياً في تكوين الصورة وليست ظلاً لها فحسب، خصوصاً في ذلك المؤثر الصوتي الجميل (صوت راعي الجمال) والمتناسب مع الموقف الدرامي في تجسيد العلاقة بين البطل والصقور المحلقة.
والتمثيل ـ أيضاً ـ في أفلام عاطف الطيب، كان عنصراً هاماً، استخدمه الطيب في توصيل ما يريده للمتفرج، مستفيداً في ذلك من قدرات ممثليه الذين اختارهم بعناية شديدة. بل إنه في بعض أفلامه اعتمد ـ بشكل أساسي ـ على تلك القدرات الأدائية للممثل في التوصيل، متناسياً الاهتمام ببقية العناصر الأخرى. كما حدث فعلاً في فيلمه (البريء)، عندما كان أداء أحمد زكي هو الفيصل الحقيقي الذي جعلنا نصدق سبع الليل، ونتابع معه خطوات مغامرته الكبيرة هذه.
إن أحمد زكي، بهذا الصدق في الأداء قد جعل المتفرج يتعاطف مع الشخصية إلى درجة التماهي، حيث أن المتفرج قد نسى أو تجاهل أن يفتش عن الأخطاء والسلبيات التي احتواها الفيلم. بل إن هذا التماهي قد جعله لا يرى ما يمكن أن يخالف المنطق أحياناً. وقد كان عاطف الطيب عموماً، حريصاً جداً في اختياره لممثليه، بل ونجح ـ إلى حد كبير ـ في إدارتهم بشكل ملفت للنظر، مستفيداً من قدرات أدائية كامنة فيهم ولم تستثمر قبل ذلك.. حيث كان الممثل في أغلب أفلام الطيب، في أفضل حالاته.
ولا يمكن للمتفرج أن ينسى مثلاً، أداء نور الشريف في (سواق الأتوبيس)، أو أداء نبيلة عبيد في (التخشيبة)، أو أداء مديحة كامل وصلاح السعدني في (ملف في الآداب)، ولا يمكن ـ أيضاً ـ نسيان كل تلك الشخصيات الرائعة، التي أداها أحمد زكي في أفلام (التخشيبة ـ الحب فوق هضبة الهرم ـ البريء ـ الهروب ـ ضد الحكومة).
وبعد أن تحدثنا عن التصوير والمونتاج والموسيقى والتمثيل في أفلام عاطف الطيب، باعتبارها عناصر فنية تقنية هامة، تسخر لخدمة المخرج في صياغة رؤيته الإخراجية للعمل الفني. يبقى أن نتحدث عن العملية الإخراجية نفسها، وقدرات المخرج في السيطرة على مجمل هذه الأدوات الفنية والتقنية، للوصول بالفيلم إلى أفضل مستوى فني.
وإذا استعرضنا أمثلة من الببلوغرافيا، تجسد مستوى الإخراج عند الطيب. فسنجد مثلاً بأن الإخراج في فيلم (التخشيبة) كان موفقاً إلى حد ما في تنفيذه للسيناريو، وليس هناك جديد فيه، هناك فقط إدارة جيدة للممثلين. كذلك الإخراج في (الحب فوق هضبة الهرم) الذي كان تقليدياً، يشوبه بعض اللمحات الفنية الجيدة، هذا بالرغم من أن هناك إدارة جيدة للممثل والكاميرا، خصوصاً المحمولة منها.
وفي فيلم (الزمار) نجد إيقاعاً منسجماً نوعاً ما في الإخراج، مع وجود اهتمام بالكادر الجمالي للصورة، في أحيان كثيرة. ولا يمكن نكران ذلك الجهد الفني المبذول من المخرج في فيلم (ملف في الآداب) في الاحتفاظ بالنبض المتدفق والإيقاع السريع واللاهث للفيلم. كما أن المخرج نجح في الموازنة بدقة بين الإيقاع البوليسي للفيلم، وبين إيقاعه كفيلم يحمل هدفاً فكريا اجتماعيا.
وفي فيلم (ضربة معلم) نجد إخراجاً جيداً حافظ على عنصري التشويق والحركة حتى نهاية الفيلم، مما ساهم في انتشال الفيلم من السقوط في السطحية. وكان خطأ الإخراج في فيلم (قلب الليل) هو أن المخرج كان أميناً للعمل الروائي إلى درجة فقدانه للغته السينمائية، وارتباك هذه اللغة في أحيان كثيرة، مما جعل الفيلم يتخبط في لهاثه وراء العمل الأدبي. هناك سيطرة من المخرج في الجزء الأول على تنفيذ كادراته، هذا إضافة إلى الشفافية التي ساهمت في جمالية المشاهد.. أما بقية الفيلم، فقد افتقد لكل تلك التقنيات الإبداعية، بل وضاع وراء تجسيد سردية القص الروائي، لدرجة شعورنا بأن الفيلم قام بإخراجه اثنان ـ يختلفان تماماً في الرؤية السينمائية.
أما في فيلم (الهروب) فنجد مستوى فنياً جيداً في الإخراج، وصل به مخرجه إلى درجة كبيرة من الإتقان، حيث نجح في إدارة فريقه الفني من فنانين وفنيين. فهناك، حقاً، إبداع أدائي من الممثلين، إن كان في الأدوار الرئيسية أو الثانوية. وهناك أيضاً تمكن واضح من المخرج في السيطرة على أدواته الفنية والتقنية. وهناك جهد واضح يحسب لصالح المخرج في فيلم (ناجي العلي) إن كان في تجسيد المعارك أو في تحريك المجاميع. وهناك أيضاً سيطرة كاملة على أدواته الفنية والتقنية كمخرج. وفيلم (إنذار بالطاعة) يتميز بإخراج جيد، ذو إيقاع متناغم مع الأحداث والشخصيات، وهناك تكوينات جمالية للكادر في أغلب المشاهد. إدارة موفقة من المخرج لأدواته الفنية والتقنية.
وختاماً نتوصل إلى إشكالية هامة بالنسبة لتجربة المخرج عاطف الطيب السينمائية، وهي إن مشكلته كمخرج، تكمن في أسلوبه الإخراجي المبسط إلى درجة كبيرة، وذلك باعتماده على الموضوع والموقف الجريء ـ بشكل أساسي ـ في التوصيل.. هذا بالرغم من أن هناك في أفلامه كم كبير من الشعر والرمز والموسيقى، إضافة إلى الأفكار والعناصر (الأدوات) التقنية.. إلا أنها جميعاً تفتقد ـ في نفس الوقت ـ لتلك الرؤية الإخراجية الخاصة التي في إمكانها توظيف كل تلك الإمكانيات التقنية والفنية للانطلاق بالعمل الفني إلى آفاق فنية وإبداعية قد تثير الإعجاب، وترتقي بالمستوى الفني للفيلم.. فسينما اليوم لا بد أن تكون قادرة على الجمع ما بين الشكل والمضمون في إطار متوازن ومحسوب.