عن طه دسوقي والجونة وصحافة الباباراتزي

مصطفى الكيلاني
في افتتاح مهرجان الجونة السينمائي، أثارت كلمات الكوميديان طه دسوقي نقاشا واسعا حول علاقة الفنان بالصحافة، خصوصا حين لم يفرق في فقرته الكوميدية بين “الصحافة الفنية” و”صحافة الباباراتزي”. حديثه جاء عفويا وصادقا، لكنه لامس منطقة حساسة يعيشها الوسط الفني منذ سنوات: كيف يرى الفنان الصحفي؟ وكيف يرى الصحفي الفنان؟
وهنا يجب أن نقول أن وجهة نظر كل منهما عن الآخر ليست مهمة، وأعتب على زملائي، أعمدة الصحافة الفنية الذين كتبوا لمهاجمة ما قاله طه دسوقي، فهنا الموضوع لا يخصنا نهائيا، هو يتحدث عن الصحافة التي يراها، وللأسف هي الصحافة المحببة لزملائه الفنانين، ونجدهم دائما ما يظهرون في برامج ولقاءات بمواقع فكاهية صاحبة الأسئلة “الخفيفة”، والتي يتحدث فيها الفنان عن حياته وزوجته بشكل عادي، وعلى الريد كاربت يهرب الفنان من المواقع الرصينة والصحفيين المحترفين ليذهب بنفسه لمواقع الإشاعات وصفحات السوشيال ميديا.
يتعاقد الفنان مع وكالة تدير له علاقته بالسوشيال ميديا، وكل هم تلك الوكالة هي عدد اللايكات والمبلغ المدفوع ونسبتها منه، والفنان الجميل اللطيف المثقف لا يستطيع مقاومة أوامر وكالته، فيذهب بنفسه لتلك المواقع والصفحات، ويقوم بمشاركة الفيديوهات على صفحته، طالما هناك لايكات أو مبلغ مدفوع، وحين يطالبه صحفي محترف لحوار فني حقيقي، يهرب الفنان ويضع أمام الصحفي فتاة الوكالة، التي ترفض حتى الرد على رسالة واتس آب، وينتهي الأمر بأن الفنان لا يجد من يحاوره فنيا، فيقرر مهاجمة صحافة الباباراتزي “أصدقائه” معتبرا إياها صحافة فنية.
صحافة الباباراتزي ظهرت أولا في أوروبا، ثم انتقلت إلى هوليوود، لتتحول مع الوقت إلى صناعة قائمة على “اللقطة” و”الفضيحة”. هي صحافة تتغذى على الحياة الخاصة للمشاهير، تلاحقهم بالكاميرات، وتحول تفاصيلهم اليومية إلى مادة للبيع. لا تهتم بالسياق، ولا بتاريخ الفنان أو فنه، بل بما يمكن أن يجذب الانتباه، حتى ولو كان على حساب الخصوصية أو السمعة.
في المقابل، انتقلت بعض أساليب الباباراتزي إلى العالم العربي مع انتشار السوشيال ميديا، لتظهر نماذج لصفحات ومواقع تخلط بين التغطية الفنية و”التريند” القائم على الفضائح، والسبب الرئيسي في ذلك هم الفنانين ووكالاتهم التي تدعم ذلك النوع من الإعلام، وتقف ضد الكتابة الفنية، مما شوه صورة الصحافة الفنية الحقيقية وأضعف الثقة بين الفنانين والإعلاميين.

الصحافة الفنية هي الجانب الآخر من المعادلة. هي الذاكرة الحقيقية للفن، التي توثق وتحلل وتقدم للجمهور صورة متكاملة عن العمل الفني وصانعيه. الصحفي الفني ليس مجرد ناقل خبر، بل باحث ومحلل وناقد، يقرأ العمل في سياقه الثقافي والاجتماعي، ويدافع عن قيمة الفن في مواجهة التسطح والتشويه.
الصحافة الفنية لا تلاحق الفنان في بيته، بل ترافقه في رحلته الإبداعية. تسأله عن فكرته، عن ألمه وفرحته، وعما يقدمه من جديد، لأنها تدرك أن الفنان ليس “مادة إعلامية”، بل ضمير مجتمع وصوته الإنساني.
لكن هل الفنان حاليا هو ضمير المجتمع؟ هذا تساؤل مشروع، فالفنان طه دسوقي يريد صحافة فنية وهو فنان مثقف لديه رؤية ووجهة نظر، لكن هل كل الفنانين طه دسوقي، هل كلهم لديهم ذلك الوعي والرغبة في دعم صحافة فنية محترفة ومحترمة؟؟
تصريحات طه دسوقي في الجونة جاءت من قلب هذا الصراع. لم يكن يهاجم الصحافة، بقدر ما كان يعبر عن جيل جديد من الفنانين الذين يشعرون أن بعض وسائل الإعلام لا تفهمهم، ولا تهتم بما يريدون قوله من خلال أعمالهم. وأنا أعلم جيدا أنه لم يقصد الهجوم بقدر ما أراد التوضيح: أن هناك فرقا بين من يسألك عن مشروعك القادم، ومن يسألك عن ملابسك أو من يجلس بجانبك في الحفل.. وفي المقابل هناك عشرات الصحفيين لا يعرفون طريقا للوصول لطه دسوقي المحاصر بوكالته الداعمة لمواقع الإشاعات والضحكات والأسئلة الخفيفة اللطيفة على قلب الفنانين، ومثله كل الفنانين الشباب والكبار، الذين تعمدوا القضاء على الصحافة الرصينة التي يرونها تهاجم الفن الأوسكاري الذي يقدمونه.
طه دسوقي، بصفته كوميديانا صاعدا، يمثل جيلا يرى في الفن مساحة للتعبير لا للمقارنة، وفي الصحافة شريكا محتملا لا خصما. لكنه أيضا جيل يريد من الصحافة أن تتطور، أن تكون أكثر فهما للغة العصر دون أن تفقد مهنيتها واحترامها للآخرين.. وهو حينما يريد ذلك عليه أن يثبت صحة رغبته، عليه أن يدعم وجيله الكتابة الرصينة، عليه آلا يستسلم لعبيد اللايكات وضحكات اللقاءات الخفيفة.
النقاش الذي أثارته تصريحات دسوقي لم يكن عابرا، بل أعاد إلى السطح سؤالا قديما: هل نحن بحاجة لإعادة تعريف “الصحافة الفنية” في مصر؟
الإجابة نعم. لأننا في زمن تتداخل فيه حدود الإعلام والترفيه والتسويق، وتصبح فيه المصداقية عملة نادرة.
الصحافة الفنية في مصر تملك تاريخا عريقا، من مقالات فكرية كتبها كبار الصحفيين والنقاد، إلى تغطيات المهرجانات والحوارات الجادة مع المبدعين. لكنها اليوم أمام تحدي جديد: أن تحافظ على دورها التنويري في مواجهة صحافة “التريند اللحظي”.
فالفرق بين الباباراتزي والصحافة الفنية، في النهاية، هو الفرق بين الضجيج والوعي.