غربة المنازل.. رؤية أعمق للبشر وللمكان للحلم وللواقع
محمود عبدالشكور
أصعب قرار يتخذه الكاتب هو تحديد الشكل الذي سيبلور رؤيته وأفكاره، واختيار الوعاء الذي سيشكل مادته، وتزيد الصعوبة إذا كان سيقدم رؤيته لحدث ما زال ساخنا، ولحكاية ما زالت حاضرة: ما هي زاوية المعالجة؟ وما هو التكوين الذي سيختاره لعناصر اللوحة وألوانها؟ وكيف ستشهد الكتابة على الحياة في زحامها وتفاصيلها التي لا تترك فرصة للتأمل وللرؤية العميقة؟
ربما يقدم لنا هذا الكتاب نموذجا ناضجا لحل تلك الصعوبات بطريقة جيدة وذكية، فقد اختار مؤلفه الروائي عزت القمحاوي أن يكتب عما فعله وباء الكورونا بمدينة الغبار وأهلها، ولكن من زاوية واسعة ورحبة، لا تكرر ما تعرفه، وإنما ترسم نماذجها الإنسانية ببراعة، وتجسد اغترابا خاصا وعاما، رغم أن جميع الشخصيات تقطن في بناية واحدة، ننطلق من أزمة الكورونا إلى أسئلة أعمق عن علاقة الشخصيات بالمدينة، بماضيها، وبظروفها، وبحيرتها بين الممكن والمستحيل، وكأن الكورونا عمقت شعور الغربة ولم تخلقه، وضعت كل شخصية أمام مرآة يرى فيها نفسه، وزادت من عزلة ووحشة وخواء يتغلل أحيانا إلى الروح.
لم نصبح بذلك أمام تعليق إخباري من السطح، وإنما صرنا أمام رؤية أعمق للبشر وللمكان، للحلم وللواقع، وهكذا يمثل نصّ “غربة المنازل” الصادر عن الدار المصرية اللبنانية قراءة القمحاوي العميقة للإنسان والمدينة من خلال أزمة الكورونا، وعن طريق رسم بورتريهات لا تنسى في لحظة الوباء، بل إن هذه اللحظة ليست سوى الممر الذي نعبر عليه لقراءة حياة الشخصيات ككل، بالذات في ماضيها القريب والبعيد.
نحن إذن أقرب إلى شكل سردي أقرب إلى اللوحات المتتالية التي تنفرد كل لوحة فيها بقصة شخصية ما، على أرضية مشتركة هي بناية واحدة ضخمة، وهو شكل موفق تماما، لأن معني الحكاية كلها في هذه العزلة، التي عمقتها الكورونا، ولذلك يقوم القمحاوي بفصل كل شخصية في عالمها الخاص، ثم الدخول إلى حياتها وصولا إلى لحظة الوباء، مع حرية كاملة في اختيار اليوم والشهر في سنة ظهور الوباء 2020، والحقيقة أن حالة العزلة والخوف والاغتراب والبقاء في المنزل، كل ذلك يجعلنا أمام زمن داخلي ونفسي للشخصيات وفي المقام الأول، ويجعل من الزمن الخارجي مجرد رقم ويوم في نتيجة الحائط.
ولكن عزت القمحاوي لا يقنع بهذا الشكل وحده، ففي اللوحة الأخيرة يذهب إلى زمن آخر، متتبعا مصائر الشخصيات التي حكي عنها منفردة، ومنطلقا إلى آخر حدود خط الخوف والعزلة والاغتراب، وهنا من جديد نتجاوز مرحلة التسجيل المرتبط بحدث ما حاضر ومؤثر، إلى قراءة لمصائر بشر يعيشون في داخلهم، أكثر مما يرتبطون بالآخرين، هم أبناء المدينة بامتياز، وأبناء المدينة الواسعة التي تغيرت، وأبناء البناية الضخمة التي لا يعرف ساكنها ما يفعله جاره، ولا يريد أصلا أن يعرف، لأن كل واحد لديه ما يشغله.
الوباء والكمامة والمطهرات ونقل بعض الشخصيات إلى مستشفى العزل وعلاجها وعودتها إلى البيت والاستعانة بالمطهرات، كل ذلك موجود في الحكايات، ولكنه ليس الحكاية، الأزمة داخل كل شخصية بالأساس، سواء في علاقتها بمحيطها، أو في حوارها مع نفسها، لم يفعل الوباء، ولم تفعل العزلة، سوى تضخيم الأزمة، وتكبير علامة الاستفهام، وتحويل المخاوف إلى هواجس ووساوس ضخمة، وتأمل الماضي كله في سجن المنزل والبناية، وزيادة ضغط مدينة الغبار على أهلها. ويعني كل ذلك أن القمحاوي نقلنا، بصنعة فن، من وباء الفيروس، إلى وباء الوحدة والغربة، بل إنه فعل شيئا عجيبا بأن نرى المدينة من خلال شخصياتها، هم أيضا مرايا المدينة، هذا العالم الواسع المضطرب يفرض أيضا علاقاته، المدينة هي البطل الضمني للنص، رغم أننا لا نغادر البناية تقريبا إلا في مشهد للترام، ومشاهد لحديقة مهجورة، ومشهد لبناية هيئة ضخمة متعددة الطوابق، بينما تظهر القرية كهامش في حكاية البواب سالم، وتظهر مدينة عربية تعمل فيها إحدى الشخصيات، كغربة إضافية في جدارية الاغتراب الشامل.
كل الشخصيات تقريبا تعاني من عدم التواصل، أو من مخاوف من نوع ما: العلاقة الجسدية الحميمة بين فريدة ويوسف لم تنشئ وضعا مستقرا، وتنتهي بسفر يوسف، ورامي، الموسيقار العجوز، يعيش مع غيداء في شقة واحدة، ولسنوات طويلة، ويعالجها من الكورونا، ولكنه لن يظفر بجسدها إلا مرة واحدة، ولن يعرف شيئا عن ماضيها، ولن يعرف سببا لرفضها علاقة جسدية ثانية معه، والمؤرخ المنعزل في بيته، سيجد في مدينة ووهان الصينية موضوعا للانشغال أقرب إلى الوسواس، ولكنه سيموت وحيدا في بيته، وشقيقه الذي يعرف كل شيء عن حياة الذباب، لا يعرف شيئا عن المرأة، وسيقضي وقتا طويلا قبل أن يعرف كيفية مخاطبة امرأة شاهدها تنزه كلبها في حديقة مهجورة، وطبيب أمراض النساء الذي يعرف الكثيرات، تحرمه حاسة الشم الخارقة من التواصل مع الحياة، وتعيده إلى داخله في حياة عقيمة، ولا يبدو الطبيب العجوز أكثر حياة من جثة الفأر الذي عثر عليه.
مدير صندوق العمارة في عالم آخر يفصله عن زوجته الحاجة سمحة، وهو لا يجد تفسيرا لما حدث لزوجته من طيرانها فجأة مثل العصافير، سوى منطق الحلم والمعجزة، ورئيس الهيئة العتيد يختل عالمه جذريا عندما يغيب الموظفون بسبب الوباء، فيصبح معلقا في الهواء، كانت خيوطه بالعالم واهية في شكل لوائح وموظفين، فلما انهارت المنظومة صار بلا دور، فجلس مهزوما في مدخل البناية يثرثر بلا توقف، بكلام لا معنى له، والعجوز العائدة من أمريكا إلى شقة الأسرة، لإحياء مقبرة العائلة، تصاب بالكورونا، وتكتشف مدينة الغبار بشكل أعمق، صارت المدينة شبحا لا تعرفه، أما ما تبقى من والديها فهو مجرد عظام في شنطة، فتقرر العودة إلى أمريكا، وتتراجع عن فكرة نقل عظام زوجها من مقابر لويزيانا، أما الشاب حسام فهو يقضي الوقت في مراقبة غريمه أمين صندوق العمارة، يكره أن ينافسه أحد في اقتناص طعمة، فيقرر أمين الصندوق أن يتخلص منه.
حتى الشخصيات الأكثر فقرا في المدينة مثل حارس الأمن، والبواب سالم وزوجته طعمة، ينفصلون أيضا عن غيرهم: الحارس يحصّن بيته من الكورونا، ويخشى على أمه وأبيه، والبواب يخاف من افتراس سكان البناية لزوجته طعمة، ويأتي الوباء فيجعل السكان يبتعدون عن البواب، وعن أولاده، بعد أن كان الأولاد في قلب اهتمام السكان.
تطل المدينة علينا في عمق العلاقات الخاصة، قانونها الفصل والحياة الداخلية رغم التفاعل الشكلي الذي يجعل الحياة تسير، ومن هنا اختار القمحاوي أن يبدأ لوحاته من الترام، عندما يخطئ يوسف في ركوب العربة التي تركبها فريدة عشيقته، لم يعرف أنها عربة مخصصة للنساء، فتتعالى الأصوات لتطالبه بالنزول، وتظهر سيدة تتأمل يوسف وفريدة بعيونها العارفة، وكأنها ترى في العشيقين حكاية تخصها، يتحول لقاء المترو إلى نظرات وأفكار داخلية، شخصيات في نفس المكان، ولكنها ليست معا، المدينة تفرض انفصالا على شخصياتها، وهذا ما سيحدث فعلا عندما ينزل يوسف في المحطة التالية، فيترك عربة السيدات، ويترك فريدة أيضا، التي لم تعد تمتلك منه إلا ذكريات جسدية في شقتها، في بناية الاغتراب الأكيد.
يفتتح عزت القمحاوي لوحاته بمقطع من إحدى حكايات ألف ليلة وليلة، عن تلك المدينة التي تحول سكانها وأشياؤها إلى أحجار، يذكرنا السارد منذ البداية بأن حكايته عن المدينة بالأساس وليست عن الوباء، عن مأزق الغربة ومأساتها، عن المفارقة بين وباء فرض العزلة، وبين الوحدة التي يمكن اعتبارها وباء وجوديا مستمرا، ولذلك تجيء النهايات خارقة للعادة، سواء بانتظار المسيخ الدجال، أو بطيران الزوجات وسقوطهن من الشرفات والنوافذ، أو بتحويل الحاجة سمحة الطائرة إلى صاحبة كرامات، أو بهذيان رئيس الهيئة المهيب، أو بصعود طعمة ورغبتها في اقتناص شقة لها ولأولادها.
هذا هو حصاد الاغتراب، ودرس الوحدة، وهما يسبقان كورونا، وإن زاد الوباء منهما، ويبقى الأمل في زواج عاشق الذباب، لقد عثر أخيرا على شريكته في الحديقة مع كلبها، سيتساند عليها في سنوات قادمة، سيضع غربته على وحدتها ويكملان الطريق، على الأقل ستعرف بموته، ولن تبقى جثته 12 ساعة وحيدة كما حدث بعد موت شقيقه، مؤرخ ووهان الوحيد.
الآن وقد أنهى عزت القمحاوي من جداريته الضخمة المليئة بالوجوه، تكتمل معالم مدينة الغبار في الخلفية، ويبدو الوباء كحيلة مدهشة لتجسيم الأزمة الموجودة من قبل.
تبدو فيروسات الوحدة والغربة وصعوبة التواصل والبحث عن معنى في خطورة فيروس الكورونا، أو لعلها أكثر خطورة.
تنجو السيدة العائدة من أمريكا من مرض الكورونا، ولكنها لن تنجو من مدينة تلفظ مقابرها، فتعيد موتاها إلى ذويهم، عظاما وجماجم بدون أكفان.