فراشات السينما في موريتانيا من سيساكو إلى ناجي سيدي
جمال محمدي
وقد اختتمت الطبعة الرابعة عشر من مهرجان نواكشوط الدولي للفلم القصير ليلة السابع والعشرون من شهر أكتوبر المنصرم، هذا المهرجان الذي ظل ولسنوات عديدة النافذة الوحيدة التي تطل منها السينما الموريتانية على نفسها وعلى العالم من حولها ،موعد سينمائي دأب صناع السينما في موريتانيا على تنظيمه في السنوات الأخيرة، لإتاحة الفرصة أمام جمهورالشاشة الكبيرة في نواكشوط العاصمة والمدن المحيطة بها.
هذه الطبعة التي اكتمل بدرها في هذا اليوم الذي افتكت فيه السينما الموريتانية إعتراف وتبني أعلى السلطات في هذا البلد الذي يسعى إلى بناء دولة عصرية جديدة متفتحة على محيطها الإقليمي والدولي، على أمل ان تبدأ التحضيرات للنسخة الخامسة عشر 2020 ابتداء من اليوم الثاني لنهاية المهرجان والتي اعلن ليلتها مدير المهرجان سالم دندو، على أنه يراهن برفقة فريقه وكل السينمائيين الموريتانيين وبمرافقة ورعاية ضمنية من أعلى السلطات الموريتانية لتحقيق هذا المسعى الحاسم في مسار السينما الموريتانية العائدة من بعيد.
ويراهن السينمائيون الموريتانيون اليوم على أن تكون أولويات هذا التوجه الجديد لتطوير السينما الموريتانية بداية من بناء مركب يحتوي على قاعة للعروض السينمائية ومكاتب لدار السينمائيين وادارة المهرجان، على اعتبار ان كل هذه المقترحات العملية مدعمة بدراسات وخطط جاهزة للتنفيذ، شريطة إيجاد الأغلفة والتمويل للانطلاق في تنفيذها على أرض الواقع بأقرب الآجال الممكنة.
وبهدف إعادة بعث امجاد وشعلة السينما في موريتانيا، وبدرجة أساسية الرهان على التكوين والانتاج والتسويق للسينما الموريتانية من خلال جملة من التدابير، لعل أبرزها تكوين فريق متكامل ومدرب قادر على احداث نقلة نوعية على مستوى الادارة والتنظيم، مع تكثيف التكوين لصالح الشباب في مختلف المهن السينمائية وإرسال بعثات الى الخارج من اجل تطوير المهارات في مختلف مهن السينما، والتركيز على ضرورة انتاج افلام تشكل سينما وطنية موريتانية تعكس الهوية الوطنية.
ومن هنا وجه سالم دندو دعوة الى كافة المهتمين من سينمائيين وداعمين رسميين وخواص ورجال أعمال الى التواصل وتكثيف الجهود المشتركة من اجل المساهمة في مسعى العودة الى البحر بمرافقة سينمائية، لاسيما بعد أن أعطت موريتانيا ظهرها للبحر لعقود، ومن هنا تتضح رؤية القائمين على مهرجان نواقشوط الدولي للفيلم القصير ومجموع السينمائيين الموريتانيين بواجب المساهمة الملموسة في هذا المسعى القومي ابتداء من النسخة القادمة التي ستنظم تحت شعار ( السينما والبحر ) بهدف إعادة شعلة السينما الموريتانية الى الواجهة و تثمين وترسيخ التجرية السينمائية الموريتانية وهي الشابة التي قارب عمرها الآن عقد من الزمن.
ومن جانب دار السينمائيين ومهرجان نواقشوط للفيلم القصير ومنذ تأسيسه العام 1982 والذي يعد المهرجان الوحيد اليتيم الذي ليس له اخ في موريتانيا، وصوت السينما الوحيد بموريتانيا ومن بين النتائج الايجابية التي حققها للسينما الموريتانية لحد الآن هي تمكنه من تغيير انطباع الساكنة والمواطن والعائلة الموريتانية تجاه السينما، بعد أن كان المواطن الموريتاني يعتبر السينما فن سيء السمعة، اصبح المواطن الموريتاني على مختلف شرائحه وميولاته يتزاحم في ساحة التنوع البيئي لمشاهدة الأفلام السينمائية اخر فضاءات العرض السينمائي، وهذا بحد ذاته يعتبر احد اهم أهداف المهرجان وهو قيادة مسعى تصالح المواطن الموريتاني مع الشاشة الكبيرة التي هجرها منذ عشرات السينين.
موريتانيا والشاشة الكبيرة.. فلاش باك
عندما نذكر أسماء مخرجين أمثال : محمد هندو، عبدالرحمان محمد سالم، وعبدالرحمان سيساكو، وكل السينمائيين الذين عانقوا الكاميرا يوما ما بأرياف ومدن بلد المليون شاعر، فإننا بالتأكيد بصدد سرد قصة تجربة سينمائية جميلة ومثيرة في هذا البلد ابتداء من أواخر اربعينيات القرن ، حينما توغلت بعثات الشاحنات السينمائية الدعائية الفرنسية في ارياف وبوادي موريتانيا في عروض سينمائية متنقلة، ولا غرابة ان يطلق عليها السكان حينها سيارات العفاريت وهم محقين في ذلك وهم اللذين لم يسعفهم الحظ بالتعرف على هذا الوافد الجديد الذي إسمه السينما .
قبل الحديث عن السينما وروادها وافاقها في موريتانيا اليوم، من المفيد لنا أن نستحضر في هذا المشهد العام الموسع قصة دخول الكاميرا إلى موريتانيا من حيث كانت البدايات، ولادة يقول عنها الكاتب أحمد ولد جدو حيما يصف هذه الولادة بأنها كانت غزَلًا فرنسيًّا استعماريا ويتفق معه كل المؤرخين، حينما يجمعون عن ميلاد السينما في موريتانيا التي ظهرت بها أولى دور العرض على يد الفرنسيّ غوميز والتاجر الفنّان همام فال، الذي يعتبر المؤسس والأب الروحي للسينما الموريتانية، وهو الذي أسّس العديدَ من دُور السينما عبر كافة القطر الموريتاني.
واشترى دُورَ المالك الاول غوميز؛ وتمّ ذلك بمساعدةٍ وإيعازٍ من الرئيس الموريتانيّ آنذاك، المختار ولد داداه، وكانت أول دار عرضٍ موريتانية في العاصمة نواكشوط، هي "دار المُنى،". حينها كان همام فال يستورد الأفلامَ العربيّةَ والأجنبيّة، ويعرضها على المشاهد الموريتاني، الى أن انخرط في هذه الشبكة السينمائية الموريتاني ديدي ولد السويدي نهاية الثمانينيات، وهكذا نمت وتطورت حضيرة دور السينما في موريتانيا الى أن وصلت سنوات السبعينيات الى أكثر من أربع عشرة قاعة سينما.
وكان همام فال قد تعاون مع المخرج الراحل محمد السالك القادم من المانيا حينها في إنتاج عدة أفلام وثائقية تصور الحياة الاجتماعية وحياة الموريتانيين أفلام مثل "ترجيت" و"ميمونة" و"بدويّ في الحضر." ومن هنا يؤكد أحمد ولد جدو بدأ اهتمام السلطات العليا في موريتانيا بالسينما والمشاهدة السينمائية في أوساط المجتمع الموريتاني الذي أصبح يرتاد دور العرض والاستمتاع بسحر السينما بشكل منتظم، وقد يعود الفضل في ذلك الى مريم دادة زوجة الرئيس الموريتاني مختار ولد داده التي تبنت فكرة إنشاء " المؤسسة الموريتانية للسينما" العام ….. ليتزامن هذا الاهتمام المشترك بالسينما والفيلم السينمائي مع خطط إعمار وبناء دولة موريتانيا المدنية الحديثة والعصرية غير أن هذه النهضة السينمائية لم تعمر طويلا وانكمشت الحركة السينمائية على حين غرة مستسلمة لموتها المبرمج والبطيء وهي اوج تطورها حينما بسط العسكر نفوذه على دفة الحكم في موريتانيا.
ولعل أحد أهم أسباب قطيعة الجمهور مع السينما هو ما ساهمت به الدولة حينما تخلت عن السينما والسينمائيين في مرحلة حاسمة من مسيرتها الجميلة والفريدة، وغضت الطرف على حمايتها من العاصفة المدمرة، وكانت أحد أهم الأسباب التي عجلت بالقضاء عليها أولا، ومن جهة أخرى عندما ساهمت السينما الموريتانية نفسها في هذا الموت البطيء، حينما فقدت معالمها وأهدافها كسينما مجتمع، وخاصة عندما فقدت السيطرة على نوعية الأفلام التي تعرض للجمهور الموريتاني الذي هجرها هو الاخر لهذا السبب. و بسبب آخرهو الأفلام التجارية الرخيصة التي تعارضت مع رغائب مجتمع محافظ لم يسلم بعد من براثن العادات والتقاليد وهي المكاشفة التراجيدية التي أوصلت السينما الناشئة الى حد الابتذال كما يصفها المخرج عبدالرحمان محمد سالم الذي يتذكر مشهد احتضار السينما الموريتانية خاصة عندما تم خلق لجنة مراقبة للأفلام مكونة من ضباط عسكريين ودخلاء عن الفن والسينما بدل لجنة ترقية للسينما مكونة من سينمائيين واختصاصيين كان بإمكانهم انقاذ السينما الموريتانية من الاحتضار.