نقد

«قصة زواج» دعوة حوارية للمشاركة وكسر الأسوار الصماء

 

نوار عكاشه

 

تحت عنوان حكائي يفتتح «نواه بومباك» (1969) أحدث أفلامه «قصة زواج» (2019، 137د)، بفوتومونتاج ممتع يعدد بِه بطلا الفيلم «سكارليت جوهانسون» و«آدم درايفر» الصفات الإيجابية التي وجدها كل منهما في الآخر، إذاً وللوهلة الأولى نعتقد أنّه فيلم رومانسي تقليدي عن الحبّ والمغامرات العاطفية وقصصها، لنكتشف سريعاً أنّ تلك الافتتاحية الإيجابية ليست سوى فرض وظيفي يقومان بِه بطلب من مستشار طلاقهما، وأنّنا أمام حاضر مُر لِزواج يحتضر، وطلاق جارٍ بِطلب من زوجة لا ترى نفعاً من قراءة ما كتبته من صفات إيجابية في زوجها بعد الآن.

 

أويما 20 - Uima20 | «قصة زواج» دعوة حوارية للمشاركة وكسر الأسوار الصماء

 

ماذا يريد "بومباك" تقديمه في فيلمه هذا؟ الفكرة مستهلكة وتأثيراتها بالية، وهو نفسه سبق وأن تطرق لها في فيلمه «الحبار والحوت»، لعله يريد التعمق أكثر في الفكرة ومعالجتها بِطرح جديد، لاسيما بعد أن اختبرها بِنفسه في طلاقه من الممثلة «جينيفر جاسون لي» عام 2013، والصداقة التي لازالت تجمعهما منذ حينها، حتى أنّه صرح بِإرساله سيناريو الفيلم لها قبيل بدء المشروع ومشاهدتها إياه فور انتهاء عملياته وأعلن إعجابها الشديد بالفيلم.

بعد مشاهدة «قصة زواج» نجد أنّه قدم جديداً بالفعل، فيلماً لافتاً غاص في العمق بِخفة مُثقلة بالألم.

 

المشاركة جوهر الزواج

 

يعتني "بومباك" جيداً بِشخصيتي فيلمه الرئيسيتين، وبِاشتغال مدروس وحسيّة ثرية؛ يُركبهما ويعقدهما نفسياً وعاطفياً، ليِضعنا في تناص مع التضاد الحاصل بينهما وتعاطف مع كليهما.

 

يؤكد الشريط على توصيف العلاقة الزوجية بِإنّها شديدة التعقيد، لِنجاحها؛ على كلا الطرفين أن ينصهرا كَعناصر كيميائية لإنتاج عُنصر مركب جديد وفعّال، ولكن هذا الانصهار قد يكون ظالماً لأحدهما، ويصبح ذوباناً أحادياً لِصالح الآخر، من هنا انطلق الفيلم بِمعالجة موضوعه، فالمشاركة جوهر الزواج، وهي تستلزم منافع متبادلة عاطفياً ومهنياً واجتماعياً، وحين تغيب تلك التبادلية يتلاشى أحد الأطراف، وهو ما حدث مع "نيكول" الممثلة التي لمعت بِإحدى الأفلام قبل زواجها من "تشارلي"، وانتقلت بعد الزواج إلى نيويورك لتصبح نجمة فرقته المسرحية، ولكن الأمور تتبدل مع الوقت، ويتضاءل بريقها ليصبح خافتاً كَإضاءة المسرح، وهي التي حلمت بِبريق الأفلام ولمعان التلفزيون حيث للنجوم حظوة كبيرة من الضوء تُشعرهم بالبهجة والرضا فَيأتيهم ذاك الشعور بِأنّ لهم مكاناً خاصاً يستطيعون منهُ التأثير في العالم.

 

أويما 20 - Uima20 | «قصة زواج» دعوة حوارية للمشاركة وكسر الأسوار الصماء

 

 

ذاك التحول في قيمتها كَشخص وممثلة أصابها بالاستياء، وأشعرها بِانعدام قيمتها وفقدان مكانها ومكانتها، ولكنها تحملت وسعت لتجاوز الأمر، إلى أن اكتشفت خيانة زوجها لها، وهو ما يفطر قلب أي امرأة ويُفقدها الأمان.

 

 

لم يتنبه "تشارلي" لذلك إلّا بعد فوات الأوان، توحده مع أنانيته أعمى بصيرته، هي نرجسية الفنان، ورؤيته الذاتية لِضآلة الجميع أمام كبر عبقريته، وهي الفوقية التي تتملك العاملين في الفن المسرحي حتّى يعتبرون الأفلام التجارية والتلفزيون ابتذالاً ودونية، تلك الصفة لا تعني سلبية كاملة لشخصيته طبعاً، هي أحدث سيئاته ويمتلك بمقابلها الكثير من الحسنات، ولكنها صفة مقيتة في علاقة الزواج وقاتلة غالباً لاستمراريتها.

حتّى وإن وُجِدَ الحبّ بِأعلى درجاته، فَالإهمال مقبرة الحبّ.

 

أويما 20 - Uima20 | «قصة زواج» دعوة حوارية للمشاركة وكسر الأسوار الصماء

 

فيلم قائم على حوارات انفعالية

 

البناء الدرامي في الصورة السينمائية متنوع الأنماط، لا تقتصر جودته على بلاغة الصور البصرية، هناك شريط الصوت الداعم والمكمل أيضاً بما يحتويه من حوارات وموسيقا تصويرية ومؤثرات، وفي «قصة زواج» يعتمد "بومباك" بِشكل أساسي على الشريط الصوتي، مُقدماً فيلماً قائماً على حوارات انفعالية لِبطليه وتفاعلية لباقي الشخصيات الأساسية.

 

تولت تلك الحوارات بناءه الدرامي، عرفتنا بِإيجابيات "تشارلي" و"نيكول" في الافتتاحية، وتتابعت جهرية وسلسة حتى النهاية، نعم كانت مباشرة، لكن لا عيب في ذلك، بل هي حسنة الفيلم ورسالته النبيلة، «قصة زواج» فيلم يدعو إلى (البوح) ويقدمه شفاءً لِأيّ سقم قد يصيب الحبّ، أن يحكي العشاق ويتحاوروا، أن يسألوا ويهتموا دوماً، السكوت ليس بالضرورة علامة الرضا.

 

أويما 20 - Uima20 | «قصة زواج» دعوة حوارية للمشاركة وكسر الأسوار الصماء

 

يبدو "تشارلي" مصدوماً حين تكلمت من أحبّ واعتاد تبعيتها لهُ صامتة، اعتقد دوماً أنّ "نيكول" جزء من كُلّيته وممثلة في مسرحه هو وحده، فَأدهشه بحثها عن مكان لها بعيداً عنه! وتبلغ الصدمة ذروتها حين الشروع بِمعاملة الطلاق الرسمي واللجوء للمحامين والمحكمة بعد أن اتفقا سابقاً على عدم حدوث ذلك، لتبدأ معركة حامية على حضانة طفلهما "هنري" استعملا بها وبإيعاز من المحامين؛ أسلحة أظهرت سوءاً لا يتصفان بِه، فَخاضا في اعترافات ومكاشفات واتهامات مَردُها تراكمات ما سبق من صمت دفين وإهمال أودى بِالحبّ بينهما إلى جنائزية يُرثى لها، من الاستقرار إلى علاقة هشة تتعالى ردود الأفعال وتتوالى الإهانات وتتعاظم الفجوة بينهما، لكنّ الحبّ يبقى متقداً لا يخبو مهما حاولا كبحه، بادياً وراء بطانة البوح اللاذع وشفافية المكابرة الرقيقة.

 

لم تتوقع "نيكول" حين بادرت بِإعلان الحرب القضائية أنّ الأمور ستتطور إلى كم هائل من التعقيد والسلبية، يؤذي بها كلا الطرفين الآخر، فَأصبحت كل كلمة عفوية وكل خطأ غير مقصود سهاماً يرميها محاميهما ضد الآخر، حتى تتوالى الأيام وتبدأ الحرب بالبرود بعد تفجر درامي حمل مواجهات صرحا بها بما أضمرا طوال السنين السابقة، وبعد استنزاف المحامين لأموالهما بِمنتهى الرتابة والجمود.

 

أويما 20 - Uima20 | «قصة زواج» دعوة حوارية للمشاركة وكسر الأسوار الصماء

 

عرض حيادي وأسوار صماء

 

في الخلفية صراع بين عاصمتي الثقافة الأمريكية، ينتمي "تشارلي" لِمدينة نيويورك المُثمِّنة للمسرح والمزدحمة بالتفاصيل، نراه بها ضمن كادرات غنية وألوان دافئة تعكس حميمية الانتماء، بينما نراقب حيرته في رحلته إلى لوس أنجلوس الشاسعة بالمساحات واستديوهات التصوير السينمائي والتلفزيوني؛ يتوسط الكادرات بِلقطات واسعة وكأنّه تائه في المساحات التي تشتهر بها المدينة، وحيداً منعزلاً، يحاول مداراة صدمته بِحبيبته وزوجته، بينما نرى "نيكول" في لوس أنجلوس مُعتادة ومطمئنة مكانياً، فَهو موطنها وعادت إليه مدفوعةً بِحلم لاحت معالم تحقيقه.

 

 

نُلاحظ حدوداً واضحة بين الزوجين في العديد من المشاهد، سياج حديقة، طاولات، بوابات… هي أسوار صماء تعكس البعد العاطفي للعلاقة المتدهورة، تتكسر في مشهد بديع يمتد لمدة 10 دقائق، بين الدقيقة 91 والدقيقة 101، حيث يبلغ البوح ذروته، بين شدّ وجذب وانفعال وعاطفة؛ ينطق الطرفان بِمشاعرهما وعتابهما واستيائهما، ولكن بعد فوات الأوان، ليت ذلك حصل في مرحلة لاحقة.

 

أويما 20 - Uima20 | «قصة زواج» دعوة حوارية للمشاركة وكسر الأسوار الصماء
 

 

مما سبق؛ تجدر الإشادة بتناغم مُثمر بين مدير التصوير «Rubbie ryan» ومصممة الانتاج «Jade healy» اللذين استطاعا تقديم عرض حيادي للشخصيتين دون أي انحياز لأحدهما، فَأصبح المُشاهد مراقباً متعاطفاً ينتظر مصير الحبّ الذي يجمع شخصيتيه دون إبداء حكم نهائي يُأطِر أو يلوم أحدهما.

 

حاول «Randy newman» مجاراة ذاك التعاطف، مُقدِماً موسيقا كلاسيكية رقيقة، لكنها موظفة بِفجاجة، فَتحولت ضمنه لِموسيقا تصويرية مُفتَعلة، تعلو وتهبط عبثاً دون أن تخدم سياقه، وهُنا يتشارك الثغرة معه فريقا تحرير ومزج الصوت في الفيلم.

 

أداء تمثيلي أتقن الإلقاء

 

يُعتبر «قصة زواج» فرصة ذهبية في مسيرة الممثل الشاب «أدم درايفر»، يؤدي بِه بطولة رئيسية بِمساحة كبيرة بعد عدة أدوار مساعدة قدمها منذ انطلاقته عام 2010، لم يُقدم في الشريط ذاك الأداء اللافت، لكنه أظهر تقدماً في حسن الأداء، ويمكن القول أن أفضل ما في الأمر هو تداعي بنيته الجسمانية الضخمة طرداً مع تفاقم أزمة الشخصية العاطفية، حتى تحول حيناً إلى طفل يبقى ما حُرِم منه.

 

أويما 20 - Uima20 | «قصة زواج» دعوة حوارية للمشاركة وكسر الأسوار الصماء

 

بالمقابل اعتدنا «سكارليت جوهانسون» ممثلة جيدة وحاضرة بِقوة أياً كانت مساحة شخصيتها في الأفلام، لكن نجمة (مارفل) تُبدي في «قصة زواج» تحولاً واضحاً في ملكاتها الإبداعية، هنا تتكشف تلك الموهبة عن طاقات وانضباطات وتقنيات جديدة، تبدو جوهانسون ثائرة على جمالها والكاريزما الخاصة بها، ومندفعة بقوة للغطس في معالم شخصية "نيكول" المركبة، فَصاغت ذاك التركيب بِاستحضار غنى باطني لِواجهة حساسة وعفوية.

 

وراء الشخصيتين عدة شخصيات أساسية تصدى مؤدوها لها بِجودة، ولكن الملفت للانتباه هو التقدير الذي حصلت عليه «لورا ديرن» عن أدائها لشخصية المحامية "نورا"، أداء استعراضي بِتكنيك تقليدي، لم يقدم في نوعيته للشخصية، بل أطرها بِنمط المرأة العملية الجامدة المشاعر ضمن لبوس تفاعلي سطحي، ويمكن إيعاز تلك المبالغة في تقدير أدائها إلى عدم وجود منافسة حقيقية لها في أفلام العام 2019 عن فئة الممثلة المساعدة.

بالمحصلة وبالاستناد للنمط السردي للفيلم نجد أنّنا أمام أداء تمثيلي أتقن الإلقاء، اشتغلوا على أصواتهم بالدرجة الأولى، ولم يتفوق على ذلك الإتقان سوى «سكارليت جوهانسون» بِما استطاعت موهبتها خلقه من إضافات للشخصية دعمت الفيلم إلى حد كبير.

 

الفيلم حاصل على عدة جوائز ومنها: جائزتي golden globe و BAFTA عن فئة (أفضل ممثلة دور مساعد: لورا ديرن)

ومُرشح لِ 6 جوائز OSCAR

 

أويما 20 - Uima20 | «قصة زواج» دعوة حوارية للمشاركة وكسر الأسوار الصماء

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى