كيف استطاعت أم كلثوم أن تمحو أثر من سبقوها وتظل على القمة
عمرو شاهين
كلما استمعت إلى أغنية لأم كلثوم سألت نفسي سؤالا، لماذا يؤرخ الكثير من الجمهور الغناء في مصر بأم كلثوم؟ ولماذا نسى الجمهور من سبقوها من مطربات؟ حيث توارت جميع المطربات اللواتي سبقن (الست) في الظلال، وظلت الست متربعة على العرش حتى الرحيل.
ما قبل الست
أم كلثوم حالة فريدة للغاية في تاريخ الغناء العربي وربما في العالم كله، فالموت وحده هو الذي كان قادرا على إنزالها من عرشها وهي على قيد الحياة -وربما لم يستطع الموت ذلك لأنها مازالت باقية في اذهان الجمهور- الساحة الفنية قبل قدوم كوكب الشرق كانت تعج بالأسماء اللامعة للغاية مثل منيرة المهدية تلك التي كان لقبها سلطانة وفتحة احمد وحياة صبري اكتشاف الشيخ سيد درويش وشريكته وغيرهن كثريات، ولكن جاءت (الست) لتضع الجميع في موقع واحد خلف الظلال.
في البداية موهبة أم كلثوم وصوتها لا خلاف ولا جدال عليها ولا أتحدث عن تلك الموهبة أو هذا الصوت إطلاقا، الساحة قبل مجيء الست إلى القاهرة كانت قد شهدت ثورتان الأولى ثورة سياسية والثانية ثورة موسيقية وإن كان زعيم ثورة 19 هو سعد زغلول فزعيم الثورة الموسيقية هو خالد الذكر سيد درويش، سيد درويش الذي استطاع جذب حتى أعتى عتاه الموسيقى القديمة مثل الشيخ أبو العلا محمد والشيخ زكريا أحمد وأيضا سلامة حجازي فأصبحوا من رواد وزعماء ثورته.
ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد فبعد ما قدمه سيد درويش من تطور موسيقي وفصل بين الموسيقى العثمانية والموسيقى المصرية العربية، جاءت أسماء مهمة استطاعت ان تزخرف الموسيقى العربية بنغمات غربية لتخلق أصوات جديدة ومختلفة بل وتخلق طريق ومنهج موسيقي جديد بالطبع على رأسهم كان محمد القصبجي ومدحت عاصم وإن كان القصبجي هو الأبرز على الساحة الفنية بينما كان أغلب وقت مدحت عاصم منصب على اعمال تنظيمية لعالم الموسيقى أكثر من طرح نفسه كموسيقى رغم انه بالفعل واحد من عباقرة الموسيقى في مصر.
تلك الساحة التي استعرضناها سريعا كانت الأرض التي خطت عليها أم كلثوم، ساحة ملبدة بالمنافسات وأيضا مليئة بالجديد والجديد في الموسيقى، لتظهر هنا موهبة الست الأكبر والأخطر وهي الذكاء، أم كلثوم كانت سيدة شديدة الذكاء، تعلم اين ومتى تضع قدمها ومتى ترفعها.
مرحلة البدايات والتوسع واحتلال الساحة
مكتشفها ومقدمها للجمهور القاهري، الشيخ أبو العلا محمد والمتأثر والمنحاز لما جاء به سيد درويش يقدم لها اغنية (الصب تفضحه عيونه) التي كتبها احمد رامي، في اللقاء الفني الأول بين رامي وثومه دون حتى ان يلتقوا وجها لوجه، وفجأة وبدون مقدمات نسمع الست تغنى من ألحان طبيب الاسنان والموسيقار الجيد وقتها (أحمد صبري النجريدي) أغنية خايف يكون حبك ليا التي كتبها رامي أيضا.
هنا انتبه الجميع أم كلثوم التي كانت مازالت تنادي بالأنسة أم كلثوم، ليست فقط مجرد صوت جيد ومخيف للمنافسات ولكنها تعرف أين تسير الموسيقى في مصر وكيف تسير مع تيارها وتصبح على طليعته، في الوقت الذي كان الملحنين يرضخون لطلبات سلطانة الطرب المتمسكة نوعيا بالطرب العثماني القديم كانت الست تحت مساحة جديدة من الأرض بمواكبتها للتيار الموسيقي الجديد.
لتأتي الضربة الكبرى حينما يقترن اسم أم كلثوم مع القصبجي في أول تعاون فني بينهم في اغنية (قال ايه حلم ما يكلمنيش) عام 1926، ليدرك الجميع ان الأنسة هي الخصم الأكثر قوة على الساحة حاليا وعليهن الخلاص منها، ولكن من قال إن الأنسة سابقا الست دائما خصم لا يمتلك الأسلحة.
كان سلاح الست السري هو السيطرة على الموسيقيين وجعلهم جزء من حاشية مملكتها التي تتوسع أسرع من توسع ألمانيا في بداية الحرب العالمية الثانية، امتدت يد الست لتحكم سيطرتها على محمد القصبجي، لكي تحرم المنافسات منه، ومن خلف قضبان الست هربت بعض الألحان لتصنع أسماء لامعة في عالم الطرب وعلى رأسهم أسمهان وليلى مراد وبعض التعاون من النجمات الأقدم مثل فتحية أحمد التي قدم لها القصبجي لحن ينافس الخلود نفسه في اغنية ( يا ترى نسي ليه).
ألحان القصبجي التي هربت من مملكة أم كلثوم خلقت ممالك أخرى في حين توقف نهر القصبجي عن الجريان فوق حنجرة الست منذ عام 1948 وحتى وفاته لتكون أخر تعاون بينهما أغاني فيلم فاطمة والتي من أشهرها (يا صباح الخير ياللي معانا) التي كتبها بيرم التونسي ولحنها القصبجي.
ولكن قبل ذلك كانت الست قد احكمت سيطرتها على ملحن اخر وهو رياض السنباطي منذ بداية التعارف في اغنية على بلد المحبوب والسنباطي هو ملحن الست المخلص، هو احمد رامي التلحين كما يمكن ان يقال، ألحان السنباطي لأم كلثوم هي أشهر ألحانه رغم انه مثله مثل الأخرين هربت العديد من إبداعاته خارج مملكة الست خاصا في سنوات الجفاء التي شهدتها علاقته بالست ولكن السنباطي ظل الجندي الوفي في مملكة الست.
ولكن لماذا السنباطي والقصبجي؟ القصبجي كان الجديد الثورة التكميلية لما بدأه سيد درويش، الملحن المعجزة الأسطوري، الشخص الذي رسخ لفكرة الأغاني الطويلة برائعته رق الحبيب، لتصبح نهج الست بعد ذلك، وان كان للست نجاحات في مضمار الأغاني الطويلة والتي كان بطلها زكريا أحمد ولكن نجاح رق الحبيب هو من جعل الست في رأيي تعتمد هذا التكنيك كطريقة غناء دائمة.
أم السنباطي فهو الجامع بين أصالة وشرقية زكريا احمد وحداثة القصبجي، بل انه يمكن القول ان هناك تأثر واضح بموسيقى القصبجي في فترة من فترات السنباطي وهذا يظهر جليا في اغنيتن لأم كلثوم الأولى هي (غلبت أصالح في روحي ) عام 1946، والثانية هي (جددت حبك ليه) عام 1950 وهما من كلمات أحمد رامي، ولكن ذلك التوازن في موسيقى السنباطي جعله الحصان الرابح خاصة بعد خلافات الست مع زكريا أحمد والقطيعة الطويلة بينهم وأيضا غضب الست غير المفهوم على القصبجي، كل هذا جعل الساحة خالية أمام السنباطي ليصنع اقليمه الخاص داخل مملكة الست ويصبح هو الإقليم الأكبر.
جواز مرور للأبدية
مع تطور الموسيقى وظهور الجيل الجديد اختارت الست بعناية فائقة أسماء المتعاملين معها من الجيل الجديد سواء على مسار الكتابة أو على مسار التلحين لتضع الست في دائرتها اهتماماتها اثنين في منتهى الأهمية في تلك الفترة وهما كمال الطويل ومحمد الموجي، الطويل الذي دخل في منطقة بعيدة عن الأغاني العاطفية حيث استقر في منطقتي الأغاني الوطنية والدينية وربما كانت بداية الموجي كذلك أيضا، حيث كان الاثنان هما أبطال أغاني فيلم (رابعة العدوية) التي غنتها الست، ولكن لحن حانة الأقدار الذي قدمه الموجي وحده كان كفيلا ان تحاول الست السيطرة علية.
الموجي الرافض لفكرة الاحتكار أصبح هو الأبن الضال في بلاط أم كلثوم فقط بسبعة ألحان فقط اثنين لأغاني دينية وثلاثة لأغاني وطنية واثنين لأغاني عاطفية، ساهم محمد الموجي في ترسيخ عرش أم كلثوم في فترة الخمسينات والستينات، للصبر حدود واسأل روحك كانتا الاغنيتين العاطفيتين اللاتان لحنهما الموجي للست، رافضا أي محاولة للسيطرة عليه او احتكاره ومتمسكا برأيه الفني دائما مما جعل الست تدخل مع في خلافات كثيرة وصلت حد القضاء.
بينما كمال الطويل وقف في منطقته الدافئة يؤدي ما يطلب منه، ربما هو نفسه لم يرى ان الست تحمل له مستقبل فنى مهم مثل الذي يحمله له الأخرين، فأكتفي بالأغاني الوطنية بعد تجربة رابعة العدوية ولم يقدم الكثير.
ولكن مع دخول بليغ حمدي إلى الحلبة تغير كل شيء، حتى دخول عبدالوهاب إلى عالم الست لم يكن له نفس الأثر الذي تركه دخول بليغ إلى عالمها، في رأيي الشخصي أن أضعف ألحان عبدالوهاب هي ما قدمها لأم كلثوم، بينما بليغ كان عند حسن ظن الست أدى ما أرادته منه على أكمل وجه.
الست أرادت ان نصنع ذلك المزج بين القيمة الفنية الموسيقية الرفيعة وبين الموسيقى الشعبية البسيطة لذلك كان بليغ حمدي هو مفتاح اللغز لتلك المعضلة، ألحان بليغ البسيطة السهلة والتي بها من الحليات والزخارف الموسيقية الراقية كانت هي جواز مرور من أي مناوشات او منافسات، إضافة أن لا أحد الأن يستطيع أن ينافس الست، ليس لان المواهب نضبت ولكن، لأنه لم توجد مطربة واحدة يتملكها الطموح لمنافسة أم كلثوم، الوحيدة التي حاولت وكانت تطمح لذلك كانت نور الهدى ورحلت سريعا عائدة إلى الشام.
أم كلثوم لم تبقى يوما على القمة لأنها فقط صوت جيد، ولكنها لأنها قررت أن تكون دولة، دولة موسيقية متكاملة الأركان، دولة امنت حدودها الفنية فأصبحت عسيرة على الاحتلال ربما أنسب تشبيه لأم كلثوم هي كونها دولة فيدرالية تضم داخلها الكثير من الأقاليم، ولكنها تحتفظ بسيطرتها الفنية عليهم ربما يجود في هذا الامر استثناءات مثل بليغ والموجي والطويل، بينما كان تعاونها مع عبدالوهاب هو تحالف بين دولتين وليس انضمام واحدة لأخرى، لتبقى أم كلثوم خالده كما أرادت دائما، وليختفي أثر من سبقوها، وبعض من عاصروها أيضا، لأنها استطاعت ان تعرف ماذا يريد الجمهور اليوم وغدا.