“للقاء قادم”.. عن فيلم “حيوات سابقة” (past lives)
محمد اليسوف
هل شعرت يوماً بعد مشاهدتك لفيلم أنك قد شاهدته آلاف المرات؟ لكنك لاتعرف متى وأين حدث؟
هل شاهدته وحيداً؟ أم برفقة من تحب؟ هل شاهدته في حياتك السابقة التي لديك إيمان ضعيف بوجودها؟
ها هي بعض الأفلام التي تترك أثراً في أعماقك يشبه لقاء شخص غير لك حياتك المتبلدة، هذه المرة كان الشخص واحداً من أفضل أفلام العام الماضي (حيوات سابقة).
كعادتي بعد انبهاري بفيلم أشاهده تجتاحني رغبة بالكتابة عنه، ولكن الرغبة وحدها ليست كافية، وماكنت أكتبه سابقاً ليس سوى انطباعات أولية لا تتضمن فكرة النقد كاملة.
شعوري بالخوف من أعين النقاد المتمرسة، أو من أخطائي الإملائية الصبيانية، جعلت أكثر ماكنت أكتبه لا يكتمل فأصبحت متمرساً بتلك الكتابات غير المكتملة (أنا الكاتب الأفضل لتلك الكلمات التي ليس لها معنى)
كيف يكتب النقاد عن عمل أول لفنان؟ فهو عمل سيلين الأول في السينما بعد انشغالها بالمسرح بعدما هاجرت إلى كندا
ماذا يقولون في الافتتاحية؟ كيف ينهون مقالاتهم؟ عمل عظيم يلوح بالأفق لصاحبة التجربة الأولى مثلا؟
رغبة تجتاحها الكذب أنا لا أجيد الكتابة عن الأفلام وإن أردت أن أكون صادقاً ولو للحظة واحدة أنا أمقتها.
بدأت بسرد الأشياء التي أكره الكتابة عنها؛ زوايا الفيلم ولمسة سيلين المرهفة بالحسية وتأثير حياتها الشخصية على سياق الفيلم لا بد وأنها عاشت تلك اللحظات حتماً، عن ماذا يتحدث الفيلم؟ عن خيالات أشخاص أصابتهم خيبة الأمل في فراق حب ظنوا أنه أبدي؟ أم عن الذين هاجروا راغبين بنقل أجسادهم إلى إنجازات غير مسبوقة؟ أم عن الذين فضلوا البقاء مع ما تبقى في جعبتهم من ذكريات وخيالات اللقاء في عالم آخر؟
وها أنا أعود لممارسة هوايتي المفضلة بعدم إكمال ما كتبته والرضوخ لخط لا يقرأ، وكعادتي أجد العزاء لنصف مجهود قمت به ثم أضع أوراقي في الدرج، لعل والدي يرميها وهكذا أَجِد أن كلَّ ما كتبته أصبح في سلة المهملات، وأخبر الجميع الكذبة المعهودة (أن كل ما كتبته ضاع هباء منثوراً).
عوضاً عن ذلك المقال الذي سوف يرميه والدي حتماً قررت أن أراسلك وأرد على السؤال الذي خطر ببالك يوماً ما؛ كيف سيبدو لقاؤنا بعد عشرين عاماً هل سوف نكون نحن أنفسنا؟ الفيلم أوحى لي بالإجابات ولأنني أكذب وتكتشفين أكاذيبي دائماً بأنني لا “أفلمن “حياتي، وأن السينما لا تشبه الحياة قررت أن أقص لك حكاية الفيلم الذي لن تشاهديه فأنت تمقتين خياراتي مؤخراً.
اتصلت ولكن لا مجيب على مكالماتي الهاتفية، ولَم أَشاهدك على حساباتك الإلكترونية في أي منها، أجلت حديثي عن الفيلم عشرين عاماً أخرى لأننا سوف نلتقي حتماً أو ربما سوف تصادفين أوراقي في الدرج يوماً ما ثقي بذلك.
في صباحٍ ماطرٍ من شهر يناير، أيام برلين السينمائية، الألمان يخبرون العالم في أيام محدودة بأنهم يحبون السينما، وأن الأفلام جزء من روتينهم السنوي.
استيقظتِ على رسالة توبيخٍ شديدة اللهجة، كانت أمنياتك أن تكون ترجمتك لفحوى الرسالة خاطئة ولكنها رسالة توبيخٍ على الأرجح:
(أيتها الآنسة المحترمة وكلت إليك مهمة الكتابة عن فيلم حيوات ماضية بمناسبة مرور عشرين عاماً على عرضه وسوف يحتفي به مهرجان برلين على أنه أصبح من كلاسيكيات السينما، يبدو أنك أرسلت إلينا مذكراتك الخاصة عوضاً عن ذلك، “نورا وهاي سونغ” لم يكونا سوريين ولَم يلتقيا في برلين!!! هل شاهدت فيلماً آخر؟؟؟ الوقت محدود والقراء لا ينتظرون من نقاد المهرجان أن يسردوا ذكرياتهم الخاصة).
مرَّ الكثير من الوقت، ربما عشرون عاماً وربما أكثر، نورا لا تعلم كيف يحسب البشر سنواتهم هكذا بالأيام والليالي وكأنها أجزاءٌ من لحظاتٍ مرَّت برمشة عين، وبعد مرور عشرين رمشةِ عين ونيف منذ آخر مرة التقيت فيها بهاي سونغ في الوطن، مكالمة ورسائل الكترونية كافية لتعيد أوصال فرقتها الجغرافيا والسنين، كانت قد نسيت شكله تقريباً ولكنها كانت متأكدة أنها بإمكانها التعرف عليه وسط الجموع.
ألم يكن نسيان من عاشت معهم ذكريات طويلة كتذكر أحلامها عندما كانت طفلةً رضيعة!
لم يكن في حياة نورا آرثر ليؤنس وحدتها فهذه برلين لا مكان لمن لا يشعر بالوحدة فيها، لم تكن متمرسة بخلط الأكاذيب مع الحقائق لتضفي على قصصها المملة الكثير من الإثارة والغرابة، لذلك اعتادت أن تكبح تلك السرديات بصمتٍ دائم.
كان كلُّ شيءٍ في حياتها الآن ينتظر “هاي سونغ” أو “هي” تتمنى أن تجعل كلًّ ما فيها ينتظر، سجائرها، فنجان قهوتها، سوف يظهر مع الرشفة الثالثة أو الرابعة، أو قبل أن تطفئ سيجارتها، وقبل أن يودع رجلٌ كرسياً جلس عليه طويلاً، أو مع أول كلمةٍ ينطق بها عجوزان صامتان (كيف الأحوال)؟
كيف للألمان أن يعتادوا حياتهم المملة بدون انتظار شخصٍ ما يجلب لهم ما تبقى من ذكريات الماضي؟
وظهر المُنتَظر بظهرٍ منحنٍ وعيونٍ شاردة، هل هو نفسه أو سوف يدعي أنه هو؟ ظهوره المفاجئ جعلها تغير خططها سريعاً عن كيف ستستقبله؟ بمزحةٍ ثقيلةٍ اعتادها ونسيتها، أو بقبلةٍ باردة؟ أو بحضنِ شوقٍ لرجلٍ التقته للتو وكأنها المرة الأولى؟ فالبشر حتماً لا يلتقون بعد غياب بل تلتقي أشباه الذكريات المشوشة بين كتفين، وأجسادٌ لم تعد تعرف بعضها البعض.
صمتٌ طويل دار بينهما، يبدو أنه أطول من صمت “بيكيت” لرفيق دربه “جيمس جويس”،
لا أزقة في برلين لكي يتجولوا فيها ماذا لو اختاروا التجوال في أزقة ذكرياتهم بدلاً عن ذلك؟ لعل أقدامهم تقودهم إلى صورٍ قديمةٍ وقصصٍ منسية!!
كيف حال الأفلام؟ –
كيف حال من تبقى في الوطن؟ –
.(وها هو يكسر حاجز الصمت بخيالٍ لا بلسانٍ ينطق)
تعلمين ما هو (ين يون) في كوريا؟=
– حدثني عن ما تبقى في سوريا ليس عن الطرف الآخر في هذا العالم!
= في كوريا يعتقدون بأنَّ كلَّ إنسانٍ يقودهُ القدر ليلتقي بالآخر ولو لمجرد صدفة، أن يسيرا كغريبين في نفس الشارع، وتتلامس أطرافُ ملابسهما، فهذا يعني أن (ين يون)، أي قاسم مشترك في حياة سابقة. وعندما يتزوج شخصان يقال إنَّ هذا بسبب تواجد 8000مستوى من ين يون على مدار 8000حياة.
وما علاقة “ين يون” بالسوريين؟؟ –
= في سوريا نحتاج إلى 8000 مستوى من “ين يون” لكي يعود البشر ليلتقوا بمن افترقوا ولكن على مدار حياة واحدة، أعتقد بأن حياةً واحدةً تكفي للقاءٍ واحدٍ يعيد الأيام الخوالي، لجلسةٍ واحدةٍ، لفيلمٍ واحدٍ.
وهذا هو اليوم فهو مجرد يومٍ ينتهي سريعاً.. يرحل “هاي سونغ” مودعاً لها متمنياً حاله كحال من بقي أسيراً للخيال طوال حياته بلقاءٍ عابرٍ آخر.
أما “نورا” فكانت ابتسامتها تشبه دموعاً ترتسم على شفتيها ولكونها اعتادت الصمت ،صمتت مجدداً.
كم هم محظوظون من يجلسون في الظلام يتابعون خطوات “نورا وهاي سونغ”، فهم وحدهم يعلمون ماذا حدث بعد ذلك، ماذا حدث لهاي سونغ ماذا يخفي صاحب الظهر المنحني؟ لعله بكي قليلاً أو أنه نظر كعادته إلى امرأةٍ جميلةٍ مرَّت بقربه أو نظر للأعلى قليلاً، للوراءِ قليلاً، لعشرينَ عامٍ مضت ، لدرجٍ تمَّ إغلاقهُ جيداً فعجز والدهُ عن رمي أوراقه المبعثرة.