لماذا نحب شيرين عبدالوهاب؟
جيلان صلاح
منذ أيام خرجت المطربة شيرين عبد الوهاب على العالم برأس حليق وابتسامة قوية لتخبر العالم بأنها أفاقت أخيراً.
انفجرت وسائل التواصل ما بين مؤيد ومعارض لشيرين هذه المرأة التي حفل تاريخها بالانكسارات والانتصارات. وفي لحظة استرجعتُ أغنيتين لشيرين، “طريقي” و”آه يا ليل”.
بدأت شيرين حياتها الفنية بأغنية شديدة التحدي والقوة “آه يا ليل”، ظهرت في الكليب فتاة بشعر قصير ترقص مبتسمة للكاميرا في تحدي عرفنا فيما بعد أنه زائف. كلمات الأغنية الغارقة في القوة كانت مجرد ستار تتوارى خلفه شيرين بالانهيار والغضب والفوضى العاطفية التي تحياها، والتي ظهرت أمام المشاهدين في أكثر من مشهد خلده تاريخها،
إيه يعني غرامك ودعني إيه يعني فارقني ولا رجعلي
ليه فاكر إن الدنيا في بعدك مفيهاش ولا قبلك ولا بعدك
ده أنا بيك من غيرك مش فارقة قدامك أهو لسة بغني
أغنية كهذه كفيلة بأن تضع شيرين على الخارطة كمطربة العواصف، امرأة تغني للتحدي والانتصار على الرجل، لكن مشوارها الغنائي أكثر تعقيداً من هذا بكثير، فلا هي مهزومة ولا منتصرة، ولا هي قوية ولا ضعيفة، هي امرأة مصرية لا تخجل من الفخر بنجاحها ولا البكاء على ضعفها، وهي في هذه تشبه نساء كثيرات، أخفين هذه الحقائق وراء أسوار الحياة العادية المنمقة والمجتمع، لكنهن تعاطفن معها أو نفرن منها بقدر تسامحهن مع شخصياتهن الحقيقية أو هروبهن منها.
***
“الأدوار التي أحبها مثل جينا رولاندز في A woman under the influence حيث يُسمح للمرأة بأن تكون ناقصة ومنهارة. هذا النوع من النساء هو الذي ألهمني بأن أبحث عن أدوار خارج الصندوق،”
- كيرستن دانست
في فيلم A Woman Under the Influence للمخرج الأمريكي المستقل العبقري جون كسافيتيز، تظهر جينا رولاندز في أقسى حالاتها، امرأة تفقد عقلها ببطء أمام مشاهد عاجز عن الفهم، أو مساعدتها، هذه المرأة تفقد تماسكها وإبقائها على العالم من حولها محكوماً، تختلف عن أمهاتنا والنساء في عائلاتنا اللاتي تعلمن منذ الطفولة أن يبقين انهياراتهن حبيسة الغرفات ومن وراء أبواب الحمامات المغلقة، هذه المرأة تصرخ وتحارب أشباحاً وهمية ولا يهمها أن تبدو بمظهر مهين ومأساوي ومجنون، إنها امرأة مجنونة إذا صح التعبير، لكنها حقيقية ولا يمكن اتهامها بعكس ذلك.
تختلف شيرين في غنائها العاطفي عن منافساتها أنغام وأصالة في عدد من الأشياء، أهمها أن شيرين تنهار بجرأة أكبر، وبحالة من الاستهتار والسخرية من الذات، ففي أغنية مثل “طريقي” والتي تعبر بشكل كبير عن شيرين الحقيقية التي لا تختلف كثيراً عن الصورة الذهنية لشيرين في خيالنا،
وإن جيتي يا دنيا عليا مرة
طريقي برضه مكملاه
يهزمني هو مره
وأبكيله وأقوله ليه
وفي وسط بكايا أبتسمله وأبصله وأضحك عليه
تسخر شيرين نفسها من نفسها، في معظم أغانيها جزء ماوراءي (ميتا) كأنما تلفت انتباهنا دائماً ألا ننسى أن شيرين هي التي تغني، وأن هذه البكائيات مصنوعة خصيصاً لنفسها وليس لنا، في خرقها لهذا البُعد الرابع تميزت عن مطربات جيلها اللاتي تمسكت كل واحدة فيهن بصورة ذهنية معينة غيرتها أو جددتها وفقاً لما يتماشى مع مسيرتها الفنية أو حالتها المزاجية أو كلاهما. وفي وسط اندماجنا مع الأغنية تظهر شيرين بوجهها الطفولي وضحكتها الفجائية لتغمز بألا نصدق أنفسنا كثيراً، هي المقصودة وليس نحن.
***
في لقاء مع جين فوندا، أخبرت فيه المذيع بأن النساء أيضاً كن يحببن مارلين مونرو، وعندما سألها عن السبب، أخبرته بأن مارلين هشة، وهن يتعاطفن مع تلك الهشاشة التي تظهرها دون خوف أو محاولة للتظاهر بقوة زائفة. وفي فيلم بعنوان White Palace يسأل البطل المرأة الفوضوية التي أحبها عن سبب هوسها بمارلين مونرو، فتخبره بأنها “نجمة مدمرة نفسياً ولامعة في نفس الآن، تخسر وتقاوم طوال الوقت،”
هكذا شيرين عبد الوهاب، تصريحات صادمة، أغنية وحيدة تكررها في عديد من البرامج فتبكي كأنما بنفس الألم مع كل مرة تنطق الكلام، تخرج بتصريح يهاجمها الجميع عليه، ثم يستمعون إلى إحدى أغانيها فيتململون في انتقادهم “لكنها موهوبة،”
مع السلامة يا حبيبي وفي أمان
عمري ما هقول يوم عليك ماضي وكان
عمري ما أنسى مهما طال بيا الزمان
تحير شيرين الجميع، حتى عندما سألت أحد أصدقائي الرجال عن سبب إعجاب الناس بأغاني أنغام، فأخبرني أن لأنغام بيرسونا محددة في أغانيها “الأنثى المنبطحة التي تفني نفسها في حب الرجل،”
وعندما أخبرته وقتها -ولم أكن من المستمعين لشيرين بكثافة- أن شيرين أيضاً أنثى منبطحة، أخبرني بأن شيرين تختلف لأنها تمزج تذللها في حب الرجل بشيرين نفسها لتبدو أقوى ومتحدية حتى وإن لم تكن كذلك، فتضع نفسها في قلب السرد، هي تحبه ومنهارة من شدة حبه لكنها شيرين، بينما تتوارى أنغام الذكية في خلفية السرد لئلا يشعر أحد بوجودها الإنساني ولا الفني، أما شيرين فتضع نفسها دائماً في مقدمة السرد، نعم يستمع إليها المحبون وهم يتخيلون أنفسهم مكانها، لكنها دائماً حاضرة في الذهن. بذكاء أحياناً، وببعض من طيش وعفوية قد تصل لل”غشومية” أحيان أخرى، لكنها موجودة، لا تختفي من ذهنك، بالطريقة التي تتنهد بيها في قلب الأغنية، تمنحك بعضاً من ضعفها ثم تسخر منك ومن نفسها كما في أغنية طريقي
وفي وسط بكايا أبتسمله وأبصله وأضحك عليه
فكأنما شيرين ذاتها هي التي تسخر من شيرين ومن مآسيها المتكررة، ترى بعض النساء في ضعفها العلني تنفيساً لما يعانينه وراء أبواب مغلقة، وقد تحمد بعضهن الله على أنهن لسن مكانها، فكأنها تضعف لأجلنا، وتنكسر لنقوى نحن. تفقد شيرين حبها ومشاعرها علناً، ثم تخرج في حفلة استعراضية لتتحدث عن هذه المشاعر المفقودة فكأنما تفضح بنفسها ما أخفته. تبكي في حلقة وتغادرها بعد مواجهتها بتصريحات إعلامية ضدها، تتهم إعلامية بالسحاقية، وتشتم أعدائها، تتحدث بطريقة غير مسؤولة في أحد المهرجانات الموسيقية العربية، وتصرح بإجهاضها مرتين، يتهمها الجميع بعدم الذكاء الاجتماعي ومحاولة إثارة الجدل طوال عمرها، فيزداد الناس حباً لها وتعاطفاً معها، كأنما شريط حياة انهيارها العلني برهان على حقيقتها الفنية التي لا ينكرها أحد.
تحطم شيرين الصورة الذهنية الرصينة للفنانات العربيات أمثال أم كلثوم وشادية ونجاة، وتعيد للذهن الراحلة صباح بكل دلالها وانكسارها وضياعها وإعادة اكتشافها من جديد. تدعو بعفوية أن يموت أعداءها وتهاجم مطربي جيلها ولا تحاول التظاهر بأنها أكثر تسامياً أو رصانة من حقيقتها، تعبر عن حبها بقوة وعن كرهها بقوة وتستدعي إلى الذهن أغنياتها ثقافة “البوح”،
أنا مش مبيناله
أنا ناوياله على إيه
ساكتة ومستحلفاله
ومش قايلاله ساكتة ليه
نسمع أغنياتها فنضحك في أعماقنا من الحبيبة “المفضوحة” بعكس ثقافة المرأة العاشقة في العالم العربي، فهي إما امرأة معذبة تخفي مشاعرها لتعذب حبيبها وتتأكد من حبه، أو امرأة خجولة تنتظر دائماً أن يبوح لها بحبه، وتنتظره ليبادر. ليس الأمر هكذا مع شيرين، فهي تلك المرأة التي تبادر دائماً، تخبر حبيبها بحبها، تعلن عن مشاعرها ببراءة الأطفال وشبق امرأة ناضجة لا تخشى الإعلان عن ولعها وولهها. وإذا تشابهت مع مطربة غنجة أخرى وهي إليسا، حملت معظم أغاني مسيرتها مشاعر شبقة أثارت كثير من المستمعين فيما سبق، فهي “أخف” و”أرهف” من إليسا التي تمنحها أنوثتها الطاغية ثقلاً وتعالياً على المحبوب حتى وهي تكتوي بناره، أما شيرين فهي الطفلة المهتاجة بالحب، ليست الطفلة لوليتا كنانسي عجرم التي تداعب مخيلة الرجال، لكنها الطفلة التي ما إن بلغت حتى صرحت لحبيبها في الثانوي بحبها، وأعلنت عن هذا الحب فلم تنتظره ليفصح لها كبقية زميلاتها، ومع اكتساء أغانيها بمرارة التجربة، ظلت هذه الطفلة حية وإن ارتدت السينييه وضبطت هيئة شعرها القصير ليتلائم مع مكانتها الاجتماعية.
مثلت شيرين نموذج الفنان الذي يبوح بمشاعره فلا يصبح نجماً بعيداً عالياً في السماء، بل شهاباً يهوي على الأرض، يكويها بنار موهبته ويتعذب من معاناته على عدم التحكم في هذه الموهبة، ففي أغنية مثل “على بالي” تصرخ شيرين،
حبيته بيني وبين نفسي ومقلتلوش ع اللي في نفسي
معرفش إيه بيحصل لي لما بشوف عينيه
ما بقتش عارفة أقوله إيه معرفش ليه خبيت عليه
بضعف أوي وأنا جنبه وبسلم عليه
لكننا جميعاً نعرف أنها أخبرته بالفعل، وأن شيرين ليست الحبيبة التي تخفي مشاعرها، أو تقبل بالحب في صمت، هي out there بمصطلح أجنبي، امرأة خارجية وليست داخلية، تلقي بنفسها في قصة الحب عالمة أنها في النهاية ستكون الطرف الذي سيُجرح وبشدة، ومع ذلك لا تتوقف عن الاندفاع.
لماذا أحببت شيرين؟ ربما لأنني أهوى هذا النوع من النساء، ربما لأنني لا أريدها أن تخسر، أريدها أن تبقى على هذا الحال كما وُصفت من قبل مارلين مونرو
“تخسر وتقاوم طوال الوقت”
ربما لأنني كلما استمعت إليها تغني
لازم أعلم قلبي أنا يقسى ولازم ينسى ولازم أعيش
أتمنى أن تصدق، وتقسى، وتختار الحياة.