رأي

مارون بغدادي.. الكتاب المفتوح لـ”لبنان”

فؤاد زويريق

لم أزر بيروت بعد ولم أزر لبنان قط، رغم رغبتي الجامحة في ذلك، قبل سنوات قليلة عزمت وصديق لي على زيارتها لكن كارثة كورونا حالت دون تحقيق ذلك، فتأجلت الزيارة، مدينة بيروت بالضبط دون باقي مدن لبنان لها صورة معينة في مخيلتي، صورة بُنيت وتأسست بفعل المشاهدة السينمائية.

أفلام كثيرة اتخذت من هذه المدينة شخصيتها الرئيسية، لبنانية أو غير لبنانية، وأنا من المؤمنين بأن السينما قادرة على إبراز ملامح المدينة، والكشف عن شخصيتها الحقيقية بهويتها الكاملة وتفاصيلها المختلفة في أوقات الرخاء والسلم، كما في أوقات المآسي والحروب، وخصوصا إذا كان صانع هذا الفيلم ابن المدينة ومُلم بأسرارها ومفاتيحها، والأهم أن يكون مبدعا حقيقيا برؤية فنية جادة ومسؤولة.

بيروت يا بيروت
بيروت يا بيروت

 فمثلا كلما زرت مدينة نيويورك، بحثت بشغف عن تلك الصورة التي استبدت بمخيلتي حولها من خلال عشرات الأفلام التي شاهدتها، وبالخصوص أفلام ابنها المخرج (وودي آلن) فتتحول زيارتي السياحية الى رحلة بحث عن تفاصيل سينما وودي آلن واستكشاف شخصية المدينة من خلالها.

لا أدري حقيقة إن كان هذا مجديا في قراءة المدينة قراءة صادقة ومجردة من أي تأثير انفعالي مرتبط بهذا الفيلم أو ذاك المخرج، وتقييمها تقييما محايدا حسب تجربتك الشخصية فوق أرضها، لا حسب الصورة السينمائية التي كونت داخلك، لكن، ومهما كان، فالمهم أنني أكون سعيدا مستمتعا بالرضوخ أكثر الى الصورة السينمائية المكتسبة للمدينة، ومحاولة تحليلها وتعزيزها ميدانيا، وهذا ما لا تجده عند الزائر العادي غير مهتم بالسينما.

حرب على الحرب
حرب على الحرب

على أيٍّ، أعود الى بيروت وأقول إن الكثير من الأفلام الروائية والتسجيلية تركت أثرا في تكوين ملمح مهم لدي حولها وحول أهلها، وهنا لا أتكلم عن بعض الأفلام العربية واللبنانية التافهة، كلاسيكية كانت أو جديدة، تلك التي تطرقت الى لبنان بشكل سطحي، وخصوصا تلك التي استغلته كديكور جمالي فارغ ليس إلا، بل أتكلم عن مخرجين لبنانيين حقيقيين أبناء الدار والأرض، أولئك الذين ساهموا في إضافة الكثير للتجربة السينمائية اللبنانية سواء في شقها الروائي أو التسجيلي كجان شمعون مثلا، و جوسلين صعب، وبرهان علوية، ومارون بغدادي… وغيرهم.

لكن بالنسبة لي تبقى أفلام مارون بغدادي الذي رحل شابا في حادث مأساوي دون أن تكتمل تجربته، الكتاب المفتوح أو الذاكرة المشرعة التي عرفتني على التجربة السينمائية المغايرة والجديدة في لبنان، وعرفتني في الوقت نفسه على شخصية بيروت المدينة، وعلى أهلها بأحلامهم وآلامهم وهواجسهم وآمالهم، يمكننا اليوم اجترار شخصية هذه المدينة -المثقلة بالحروب كما بالحياة- من خلال أفلام مارون بغدادي وما لحقها أنذاك من شروخ وجروح، وعكسها على ما يحدث اليوم، فلا شيء تغير على ما نقرأ ونسمع ونتابع، فاليوم كما الأمس، لذا تبقى أعماله صالحة لقراءة واستشراف سلوكيات الإنسان اللبناني وقت الأزمات والحروب.

حروب صغيرة
حروب صغيرة

فعلى امتداد الزمن بين الماضي والحاضر ورغم الحروب والانتكاسات والأزمات يبقى اللبناني متشبعا بالحياة أكثر من الموت ومحبا وعاشقا لها، قد يتملكه الخوف والقلق كسائر البشر لكنه قد يتغلب عليهما بالسخرية والإقبال على الحياة، وهذا ما يميزه عن باقي الشعوب العربية، فقد تجده غارقا في حروبه الشخصية الصغيرة غير آبه بالكبيرة كما جاء في فيلم “حروب صغيرة” الذي أنتج وسط الحرب.

مارون بغدادي لا يحاول التأثير على المتلقي واستدرار عطفه ومناشدة شفقته، ولا يلهث وراء دموعه كما يفعل بعض المخرجين العرب الذين اتخذوا من الحروب مواضيعهم، بل يحاول أن يوازي بصدق بين إيقاع الحرب والصورة غير مستغل للمأساة وغير مبالغ في تراجيديتها، بل ومُتجرّد من كل النزعات والولاءات الطائفية التي تحكم لبنان، تشعر به وكأنه يناقشك بكل بساطة، ويتشارك معك أفكاره، وفلسفته ورؤاه حول ما يجري.

كلنا للوطن
كلنا للوطن

ختاما وحتى لا أطيل، فكما قلت سابقا أنا لم أزر لبنان، لكن كلما حصل شيء فيها تحضرني بشكل تلقائي أفلام هذا المخرج المجدد والمتجدد مارون بغدادي، لهذا استحضرته اليوم، أعماله كلها تستحق المشاهدة والتوقف، لكن مع مراعاة تدرج مسيرته، وبالتالي تجربته ونضجه السينمائي، ك”بيروت يا بيروت” 1975، و”حرب على الحرب” 1983، و”حروب صغيرة” 1982، و”الرجل المحجّب” أو L’homme voilé 1987، و”خارج الحياة”1991 الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان… وغيرها من أفلام، فليشاهدها من استطاع إليها سبيلا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى