ما بعد القنبلة: السينما اليابانية بعد الحرب
علي الضو
في نهاية صيف عام 1945 محت قنبلتي هيروشيما وناجازاكي المدينتين من على وجه الأرض لتكون نهاية درامية تتوج ملحمة المأساة البشرية التي خلقتها حرب العالمية الثانية.
مهدت الكارثة الطريق لاستسلام اليابان وما أعقبه من تغيرات شاسعة محت بالتدريج اثار الحقبة الفاشية التي حكمت البلاد طويلاً وفتحت الباب أمام مرحلة جديدة.
ما بين ماضً ملئ بالعذابات ومستقبل غارق في المجهول عاش اليابانيون مخاضاً أليماً وطويلاً جسدته شاشة السينما على مدي ثلاثة عقود بعين فاحصة ورؤية ناقدة ونظرة كاشفة نسجت سيمفونية فنية روت حكاية بشر نهضوا من تحت الأنقاض.
-ندم ونظرة للمستقبل:
يعيد السيد واتانابي النظر إلى عمره الذي أفناه في التكلس والانسحاق داخل روتينية الدولاب الوظيفي حيث يغير السرطان بوصلة حياة العجوز المحتضر ليُسَخِر ما بقي من عمره في خدمة مجتمعه والأجيال القادمة.
ينطق فيلم "من أجل العيش"* بلسان حال مرحلته التي ساد فيها مناخ من الحزن والندم على ما ضاع وإعادة النظر فيما مضي في سبيل عدم تكرار أخطاء الماضي من أجل مستقبل أفضل.
نري حالة الحسرة والحزن جلية من خلال أحداث فيلم "قصة طوكيو"* لأيقونة الواقعية-المشارك السابق بالحرب-ياسوجيرو أوزو، نلمس ذلك عبر الجمل الحوارية ما بين الشخصيات التي تأثرت بالحرب والأداءات تمثيلية وعناصر الصورة التي عكست عمق الأزمة وصعوبة المأساة على نفوس البشر.
مأساة أوزو تنتهي ببصيص أمل يتمدد خطه نجو المستقبل وهو ما يتناقض مع أعمال مثل "غيوم تائهة"* لميكيو ناروزا و"شارع العار"* لكينجي ميزوجوتشي صدرت في ذات المرحلة الا أنها كانت بمثابة جرعة ميلودرامية قاتمة جسدت ما حل بالإنسان من مهانة على خلفية الحرب والدمار.
-غضب عارم:
يقرر ميزوشيما تسخير حياته في سبيل دفن جثث ضحايا الحرب التي ملأت الساحة في بورما والا يعود للوطن الا بعد انتهاء من مهمته النبيلة، أتي ذلك عقب تجربة روحانية وإنسانية خاضها الجندي الشاب تعلم منها قيمة الحياة ومدي بشاعة الحرب.
"القيثارة البورمية"* لكون أيتشيكاوا هو واحد من الأعمال التي شكلت التيار السينمائي الذي عبر عن حالة الغضب المستعر لدي الأجيال التي عاصرت الحرب وشاركت فيها، أعمال تصرخ بالمسكوت عنه من فظائع الحرب وتوجه أسهم نقدها للعهد السابق وعقيدته وممارساته التي ألقت بالجميع إلي قلب التهلكة.
عد "الثلاثية الإنسانية"* و"هاراكيري"* للمخرج ماساكي كوباياشي من أبزر أعمال هذا التيار فقد حملت نقداً منهجياً عميقاً للمنظومة القيمية والعقلية للفاشية وعملت على فضخ لا إنسانيتها وإستخفافها بحياة البشر في مقابل تعزيز سطوتها.
-خوف وضياع وبحث عن الأمان:
حالة من القلق تظل مسيطرة علي الدكتور ياماني حتى بعد انتهاء خطر الوحش "جودزيلا" يعبر عنها بكلامه التي أختتم بها الفيلم المنتج عام 1954 حيث يقول.
(لا أصدق أن جودزيلا هو الناجي الوحيد من نوعه، لذا فاذا أستمررنا في إجراء الاختبارات النووية فلا أستبعد أن يظهر جودزيلا جديد في مكان ما من العالم)*.
الخوف والضياع يشكلان ردة الفعل الأولية لدي المجتمعات التي مرت بهزات كبري مثل الكوارث الطبيعية والحروب، والسبب أن أول شيء يتحطم على صخرة هذه الأزمات هو الأمان الشخصي للأفراد العاديين، وتتعمق الأزمة أكثر فأكثر مع التغيرات والتقلبات بشكل يؤثر على استقرارهم ويمس سلامتهم.
جسد "راشمون"* لأكيرا كوروساوا –أول فيلم ياباني يصد جائزة عالمية- تلك الحالة في قالب حداثي فريد يدور حول جريمة قتل انمحت حقيقتها بين تضارب روايات الشهود وتصل بالمشاهد إلى طريق مسدود في إسقاط ذكي على حالة انسداد الأفق والضياع التي سادت الأجواء وقتها، الا أنه وفي نهاية السرد يراهن بعين المتفائل علي الخير بداخل الإنسان وهو ما كرره بعد ذلك في نهاية "الساموراي السبعة"* لكن الراهن هذه المرة كان على قوة وقدرة الجماهير.
الا أن رغم تلك النبرة المتفائلة ظلت ذكري الدمار والخوف الناتج عنه حاضرة في الصورة وهو ما جسدته العديد من الأعمال أبرزها "أنا أعيش في خوف"* لكوروساوا الذي يعيش بطله في حالة هلع من خطر الحرب النووية تودي به إلى الجنون.
-رغبة وتمرد:
(أضيئوا الأنوار. الفيلم ينتهي هنا. وها قد جاء دوري لكي أتحدث. إذا فكرت في الأمر فستجد أن الفيلم لا يمكن أن يعيش سوي في الظلمة.. فهكذا عندما تُضاء الأنوار فأن عالم الفيلم ينمحي.. أثناء عملي بالفيلم حلمت بطائرة بشرية.. وبعد انتهاء التصوير.. عندما عُدت إلى غرفتي مع كل أنيني وآهاتي.. حلمت.. حلمت بالطائرة البشرية.. وهو ما يثير اندهاشي. وخطوة بخطوة.. ومع استمرار ذلك.. أختفي الحد الفاصل ما بين الفيلم والحياة).
حطم بطل "ألقي بكتبك بعيداً، أعدوا في الشوارع"* كل الحواجز والتقاليد السينمائية المعروفة في اللحظة التي أعلن فيها انتهاء الفيلم وانتهاء تقصمه للدور وبدأ في الحديث للجمهور خلف الشاشة بصفته الشخصية ليسرد ما يجول في خاطره حول الحياة والسينما وتجربة العمل مع المخرج "شوجي تيراياما" صانع هذه الحالة الجامحة والتي أتت ضمن سياق حراك ثقافي وتيار سينمائي تجريبي متمرد جعل من كسر الحدود والممنوعات على جميع الأصعدة منهجاً له.
يعرف هذا التيار بـ"الموجة اليابانية الجديدة" وهو الترجمة الفنية الأكثر تطرفاً وجرأة للتحولات التي طرأت على المجتمع الياباني بعد الحرب حيث السخط على الواقع والرغبة في التغيير كانا المحركان الأساسيان لجيل الشباب آنذاك وهو ما انعكس على أداءاتهم على الصعيد الاجتماعي والسياسي ومن ثم الصعيد الفني.
طرق الجيل الساخط كل الأبواب المغلقة ونطقت ألسنة التمرد بكل المسكوت عنه، فتناولت أعمالهم الجنس والقضايا الاجتماعية والسياسية الشائكة وسلطت الضوء على عالم الجريمة والفئات المنبوذة اجتماعيا وعبرت عن الشباب ومشاعرهم وطموحاتهم وجسدت أهم ملامح العصر، يواصل التمرد زحفه ليطال قواعد السينما وأساليب السرد الكلاسيكية فنجد لدينا تجارب سينمائية مميزة منتجة بأقل التكاليف وتحطم التيمات والأساليب التي سيطرت على السينما لسنوات طوال وتطرح ما هو جديد ليدفع بالفن السابق نحو المستقبل.
في نهاية فيلم "الجزيرة العارية"* تستمر حياة الأسرة البسيطة رغم ما أجتاحهم من ألم بعد رحيل فتاهم الصغير، وهكذا كان حال البلد الجريح فلم توقف رياح الدمار عجلة الحياة عن الدوران لكنها خلقت واقعاً جديداً وجدت منهله ومرأته في نبع الفن الذي حكي ما عجزت الالسن عن النطق به.
أسماء الأفلام:
*Ikiru 1952 – Dir: Akira Kurosawa
*Tokyo Story 1953 – Dir: Yasujirō Ozu
*Flaoting Clouds 1955 – Dir: Mikio Naruse
*Street of Shame 1956 – Dir: Kenji Mizoguchi
*The Burmese Harp 1956 – Dir: Kon Ichikawa
* Human Condition Trilogy 1959-1961 – Dir: Masaki Kobayashi
*Harakiri 1962 – Dir: Masaki Kobayashi
*Godzilla 1954 – Dir: Ishirō Honda
*Rashômon 1950 – Dir: Akira Kurosawa
*Seven Samurai 1954 – Dir: Akira Kurosawa
*I live in Fear 1955 – Dir: Akira Kurosawa
*Throw away your books, Rally in the streets 1971 – Dir: Shuji Terayama
*The Naked Island 1960 – Dir: Kaneto Shindo
المصادر:
https://en.wikipedia.org/wiki/Cinema_of_Japan
https://www.youtube.com/watch?v=O96ZrciKVQM&t=1269s
https://seemsobvioustome.wordpress.com/2014/01/07/a-brief-history-of-postwar-japanese-cinema/
https://en.wikipedia.org/wiki/History_of_Japan