محمود رضا.. التعبير عن هوية مصر (2-2)
مصطفى عزالعرب
كان محمود رضا يدفع مرتبه أجور وتجهيزات لعروض الفرقة والراقصين الذين كانوا يقبلون بمبالغ زهيدة للغاية حماساً للفكرة، وبالفعل بدأت الفرقة تنطلق وتثابر في طريقها وتقيم العروض في كل مكان وكانت تلاقى استحسان وجماهيرية في كل مكان نظراً لارتباط الاستعراضات بالبيئة المصرية المتأصلة في وجدان المشاهد فوجدت طريقها إلى قلوبهم بسهولة.
وجدت الفرقة طريقها إلى شاشة التلفزيون لأول مرة عام 1960 باستعراض “الفانوس” أول استعراضات الفرقة المصورة، وفى عام 1961 تم تأميم الفرقة لتدعمها الدولة لدورها العظيم في دعم هوية مصر من خلال وزارة الثقافة في عهد الوزير ثروت عكاشة بعدما شاهدهم الرئيس جمال عبدالناصر وأعُجب كثيراً بما يقدموه وعندما عرف قصة الكفاح والمعاناة التي مروا بها لإنتاج فن يعكس ثقافة مصر وهويتها، على الفور بدأ الإنتاج بعروض كبيرة وأكثر احترافية تحت رعاية الدولة وتولى الأخوين رضا إدارة الفرقة رسمياً كموظفين بوزارة الثقافة وأصبح مقرهم مسرح متروبول ثم انتقلوا إلى دار الأوبرا إلى أن استقرت الفرقة حالياً بمسرح البالون .
للتراث المصري دور كبير في إلهام محمود رضا بالعديد من المشروعات الفنية وليس فقط في تأسيس الفرقة وتصميم الرقصات، وساعده على هذا اخوه على رضا صاحب الرؤية الإخراجية، وموسيقار شاب انضم لهم في بداية عملهم دون أن يتلقى مليماً واحد لإعجابه وإيمانه بالفكرة، وكان هذا الشاب هو الموسيقار العظيم على إسماعيل فنان الروح المصرية الأصيلة، فعمل الثلاثة على إحياء والحفاظ على فن وفلكلور الفن المصري العتيد والعريق بمراحله منذ آلاف السنين.
أعاد إسماعيل توزيع أغاني الفلكلور المصري وقدمها في قالب مختلف وقام بتأليف موسيقات الاستعراضات المختلفة التي استوحاها محمود رضا من فنون الريف والسواحل والصعيد والبرية مثل (رنة الخلخال – على بابا – النوبة – البنت الإسكندرانية – الحجالة – خمس فدادين – اللمونة – الشاويش – العصاية)، وكان التراث المصري أيضا بوابة الأخوين رضا نحو دخول قائمة افضل 100 فيلم مصري في التاريخ بفيلم “غرام في الكرنك” واحد من أفلام ثلاثة كانت من بطولة الفرقة.
فقد اعتادت الفرقة أن تقدم عروضها للسياح في معبد الكرنك بمدينة الأقصر، فحدث أن جلس مرة محمود رضا خلف كواليس المسرح يتأمل في تماثيل رمسيس الضخمة وبهو الأعمدة العظيم بالمعبد ويتخيل، ماذا لو استيقظت تلك التماثيل الآن وشاهدت ما نقدمه، هل ستسعد بأنهم يعيدوا اكتشاف جذورهم المصرية وتقديمه في قالب حديث أم سيغضبون لأنهم يرقصون في معبدهم، لكن في النهاية استقر على أن الأجداد سعداء بما يصنعه الأحفاد لأنه امتداد لإبداعهم وحضارتهم التي قدرت الفن والفنانين وصنعوا بهم اعظم حضارات الإنسانية، وعلى الفور أطلع اخوه ع الفكرة وانه ينوى عمل الفكرة في استعراض مسرحي إلا إن اخوه طلب منه ألا يتعجل لأن الفكرة تستحق أن تحول لعمل سينمائي وقد كان “غرام في الكرنك”.
أما باقي الأفلام فلاقى فيلم “أجازة نص السنة” نجاح كبير وقد شاركت فيه الفنانة ماجدة لدعم الظهور الأول للفرقة على شاشات السينما وقد حمس نجاح الفيلم شركة القاهرة للإنتاج السينمائي على إنتاج فيلم غرام في الكرنك عام 1967 وكان أول فيلم مصري ملون يتم تحميضه في مصر وكان الفيلم اجمل لوحة فنية تستعرض وجه مصر في هذه الفترة بشكل مستمد من عظمة المصري القديم وحضارته مع عرض لمحة من كفاح الفرقة في بدايتها وسعيها لعمل عروض يشاهدها جميع المصريين فيصطدموا بالروتين وتحمس أفندي النموذج التاريخي للموظف المُعقد كاره الشباب وكاره التجديد.
أما ثالث أفلامهم ظُلم في إنتاجه وهو “حرامي الورقة” حيث يرى محمود رضا انه كان من الممكن أن يكون اعظم أفلامهم لكن ظروف الحرب بعد النكسة والأزمات الاقتصادية حرمت الفيلم من أن يُنتج بشكل يناسب فكرته واستعراضاته، لتبقى تلك الأفلام على قمة الأفلام الاستعراضية المصرية حتى يومنا هذا ويرى النقاد انه لا يوجد أفلام استعراضية في تاريخ السينما ألا هذه الأفلام الثلاث، فنحن نجد في الفيلم أن الرقص جزء من أحداث الفيلم لا يمكن فصلها، فنجد الشباب يرقص في الحقول والشوارع والمعابد، فقصة الفيلم قائمة على الاستعراضات بشكل.
جولات وجوائز عديدة حصلت عليها الفرقة، فبدأت عام 1960 بمهرجان القطن المصري في الهند وأستمر رحلاتهم الدولية يوغسلافيا، ألمانيا، تونس، إنجلترا، الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان، الأردن، روسيا وفرنسا ومعظم الدول العربية والأفريقية ورقصوا على اعظم مسارح العالم، مثل الأولمبيا بباريس، البرت هول بلندن، بيتهوفن في ألمانيا، ستانسلافسكى في روسيا ومسرح هيئة الأمم المتحدة في نيويورك وجنيف، وحصلوا على العديد من الجوائز مثل المركز الأول سنة 1960 بمهرجان كوبير بيوغسلافيا، وسام الكوكب الأردني من الملك حسين، وثلاث ميداليات ذهبية عام 1967 والجائزة الأولى والذهبية بمهرجان جوهانسبرج عام 1995.
رحلة طويلة من الكفاح والمثابرة بدأها محمود رضا استغرقت عقود، واليوم نودعه في عامه التسعين قضى منها 60 عاماً في خدمة فرقة رضا وسفيراً لثقافة وتراث أبناء مصر للعالم، وأتمنى أن تكون وفاته جرس تنبيه للنظر على حال الفرقة الآن ودعمها بأقصى شكل ممكن لتعود لريادتها وتميزها مره أخرى ونعيد عصرها الذهبي وفاءاً لهذا الرجل الذي بذل عمره لخدمة حضارة هذه الأمة العظيمة.