محمود رضا الطائر الذي يرقص بين أعمدة معبد الكرنك
أسامة عبدالفتاح
محمود رضا لم يكن “يبدو طائرا” وهو يصعد عاليا، فاردا ساقيه، صانعا خطا مستقيما موازيا للأرض، أو وهو يدور دورة كاملة في الهواء بين أعمدة معبد الكرنك، بل كان يطير بالفعل.. ولم يكن يرقص فحسب، بل كان يشارك في تحليق أمة عريقة عظيمة كانت قد تخلصت من الاستعمار البغيض، ثم انتصرت في مواجهة عدوان أجنبي ثلاثي، وانطلقت تبني وتنهض في مختلف المجالات.
ليس فيما سبق أي قدر من المبالغة، وليس الحديث بهذه الصيغة بشكل عام عن الفنان الكبير محمود رضا (1930 – 2020) إنشائيا أو متسرعا، فهو يستحق كل حرف فيه وأكثر.
وقد توقفت أمام فيديو قصير أعدته – مشكورة – إحدى القنوات الفضائية تحية منها لمحمود رضا، ووصفته فيه بأنه “راقص ومصمم رقصات مصري”، وهذا صحيح، لكنني – إزاء دوره الفني والوطني الذي يتجاوز ذلك كثيرا – تمنيت أن يتسع قاموس الصفات والألقاب الرسمية لما يُعبِّر أكثر عن هذا الدور العظيم، مثل “رمز التنوير” وغيره.
فرقة رضا
نخسر بغياب محمود رضا صانعا آخر من صناع وجداننا ومن رموز مصريتنا.. نعم، ففرقة “رضا”، التي أسسها عام 1959، رمز مصري خالص وأصيل آخر ظهر في سنوات “الحلم الوطني” التي تلت نجاح واستقرار نظام ثورة يوليو 1952 وسبقت نكسة 1967، والتي صاحبتها نهضة فنية وثقافية في السينما والمسرح والفنون الشعبية ومسرح العرائس وغيرها من المجالات.
كان ابنا شرعيا نجيبا آخر لهذه النهضة، وجزءا لا يتجزأ منها، وساهم فيها بقوة، والأهم أنه كان من أصحاب الفضل في إصباغ الهوية المصرية البحتة عليها من خلال تجربة “فرقة رضا” غير المسبوقة ولا الملحوقة في تاريخنا الفني العربي.
الهوية المصرية
بالمناسبة، لم يكن محمود رضا وزملائه يقصدون ذلك أو يخططون له، وقد صرح أكثر من مرة بأنهم كانوا يفعلون شيئا يحبونه فقط، ولم يكونوا يتخيلون أنهم سيحققون كل ذلك، وسيجوبون العالم حاملين فن وتراث مصر الثقافي على أكتافهم، ومحققين نجاحا أسطوريا قل أن يصل إليه أي فنان.
وبغض النظر عما يقصدونه، المؤكد أن فرقة رضا لم تكن مجرد فرقة رقص شعبي، بل كانت بحثا جادا في الهوية المصرية، وعنها أيضا، وإجابة عن سؤال كان لابد من طرحه بعد التخلص من الاستعمار الأجنبي: من هي مصر الحقيقية؟ والإجابة جاءت في صورة رقصات من كل بقعة مصرية، سواء ريفية أو حضرية أو ساحلية أو بدوية، بدعم موسيقي مذهل من العملاق علي إسماعيل، وبأصوات مصرية أصيلة مثل محمد العزبي، وبمشاركة شبان أكاديميين مثقفين غيروا مفهوم ونظرة المجتمع المصري لـ”الرقص”.
غرام في الكرنك
لذلك أرى أن إطلالة فرقة رضا على السينما، في أفلام “إجازة نص السنة” (1962) و”غرام في الكرنك” (1967) و”حرامي الورقة” (1970)، لم تكن – كالعادة – استغلالا لنجاح الفرقة لتحقيق الأرباح، بل كانت توثيقا لذلك التراث الفني والفلكلور المصري عن طريق السينما، ذاكرة الشعوب التي لا تملك – مثلنا – أرشيفا حقيقيا للأسف الشديد، ولولا السينما لضاع كثير من تراث فرقة رضا وراح في طي النسيان.
حرامي الورقة
ووسط ذلك كله، كان محمود رضا – إلى جوار شقيقه المخرج الكبير علي رضا بطبيعة الحال – القائد والملهم والمصمم والممثل أيضا.. وهنا، لا يمكن القول بأنه كان يمتلك قدرات تمثيلية كبيرة، فقد كان حضوره وجاذبيته يكفيان، لكن الإنصاف يقتضي الإشارة إلى دور صعب أداه بشكل مرض للغاية في فيلم “حرامي الورقة”، قصة وسيناريو وحوار محمد عثمان، إخراج علي رضا، خاصة في مشهد يجمعه بشخصية “زينب” (نجلاء فتحي) ويطرح مفهوم الحق والعدل بين شابين فقيرين يتصور كل منهما أن له حقا في ورقة يانصيب رابحة اشترتها هي وسُرقت منها ثم اشتراها هو من اللص دون أن يعرف أنها مسروقة.. ويدور بينهما الحوار البليغ التالي:
= انتي يظهر مش فاهماني يا زينب هانم.. أنا في نار طبعا.. الورقة معايا وفي جيبي وكسبانة خمسة آلاف جنيه وحضرتك عايزاني أرميهم لصحابهم.. ليه وعشان إيه مش فاهم
** كده.. لأن ده الحق والعدل
= واشمعنى أنا بس في الدنيا دي اللي عايزاني أمشي بالحق والعدل؟
** فيه ناس كتير كده يا أخي
= فين؟؟ مين هما؟؟
وبشكل عام، لم يأخذ هذا الفيلم حقه من الاهتمام والنقد والتحليل، حيث لا يناقش فقط قضية الحق والعدل، بل يطرح سؤالا في غاية الأهمية حول اللص، أو “الحرامي”: من هو؟ من يسرق أو ينشل؟ أم من يعرف بوقوع الجريمة ويلتزم الصمت لتحقيق مصالح شخصية؟ أو ربما شخص ثالث أكبر وأخطر من الاثنين ويختبئ عن العيون؟