من ذاكرة السينما: البوسطجي.. السجن بين أوراق الحب
حسن حداد
رغم مرور أعوام طويلة على إنتاجه، يبقى فيلم (البوسطجي – 1968)، علامة بارزة في تاريخ السينما المصرية.. فيلم يعد ضمن كلاسيكيات السينما المصرية. وهو فيلم يحكي بصدق عن ذلك التخلف الذي تعيشه القرية المصرية في تلك الفترة. في ثاني تجربة إخراجية للمخرج حسين كمال، وهو الفيلم الذي قدمه كمخرج للوسط الفني والسينمائي، ليصبح فيما بعد من أبرز أعمدة الإخراج في مصر.
يحكي الفيلم عن عباس (شكري سرحان)، الشاب القادم من القاهرة لاستلام وضيفته كناظر لمكتب البريد في قرية "كوم النحل" في الصعيد.
والفيلم يطرح عدة خطوط درامية منسجمة ومتداخلة في بعض، إلا أن هناك خطان رئيسيان مهمان.. الأول يخص البوسطجي القاهري، والذي يعيش صراعاً حاداً بين تصوره للواقع الاجتماعي وتصور أهالي القرية المتخلف لهذا الواقع. فهو يعيش في عزلة اجتماعية قاسية ومملة، فرضها عليه أهالي القرية. وفي عزلته هذه، يحاول كسر حدة الوحدة والملل، فيلجأ إلى فتح رسائل أهل القرية، يدفعه إلى ذلك حرصه الشديد لمعرفة ما يدور في هذه القرية.
أما الخط الدرامي الثاني، فهو قصة حب بين فتاة من القرية (زيزي مصطفى) وبين شاب من خارجها، لذا تكون الرسائل هي حلقة الوصل الرئيسية بينهما. ومن خلال اطلاعه على رسائل القرية، يفاجأ البوسطجي بهذه العلاقة ويتعاطف معها كثيراً. إلا أنه، وبسبب خطأ غير مقصود منه، يتسبب في انقطاع خط الاتصال بينهما، وذلك بعد أن أثمرت هذه العلاقة جنيناً غير شرعي، فتكون نتيجة ذلك مقتل الفتاة على يد والدها الصعيدي (صلاح منصور)، لمحو هذا العار. لينتهي الفيلم بلقطات قوية ومعبرة لعباس البوسطجي وهو يبكي ويقطع الرسائل وينثرها في الهواء، وذلك لإحساسه العميق بالذنب لحدوث هذه الفاجعة المأساوية.
قصة الفيلم مأخوذة عن قصة للأديب يحيى حقي بعنوان "دماء وطين"، إلا أن السيناريو استطاع أن يحولها إلى فيلم سينمائي متماسك، به كل مقومات الفيلم الناجح، وإن الإضافات فيه مدروسة بعناية، ولا تشعر المتفرج بالإطالة أو الافتعال.
يتحدث حسين كمال في هذا الصدد، فيقول: (…أنا حريص باستمرار على إبراز فكرة المؤلف ثم إضافة فكري الخاص. وفي البوسطجي قلت وجهة نظري، في الجملة التي جاءت مع المشهد الأخير "مملكة ثانية".. ولكن لا بد أن أقدم يحيى حقي، وإذا كانت لدي فكرة أخرى أكتبها وأقدمها للناس. وعموماً فإن اختيار موضوع معين والإحساس به ثم إخراجه، يعني إنني متفق معه…).(1)
أما عن كتابة الفيلم، فيقول: (….من المؤكد بأنني وجدت نفسي فعلاً في فيلمي الثاني (البوسطجي)، فبعد عامين من التفكير الطويل والتأمل العميق، كان هذا الفيلم مثل لحظة تنوير، فقد كتبته مع صبري موسى ودنيا البابا، دون علم صلاح أبوسيف، ثم ذهبت إليه، وقلت له لن أصنع إلا هذا…).(2)
بفيلم (البوسطجي)، استطاع حسين كمال أن يحقق استخداماً متقناً للمونتاج بقيادة المونتيرة رشيدة عبدالسلام، والتي عملت معه في أغلب أفلامه فيما بعد. كذلك استفاد كثيراً من التفاصيل الصغيرة والشخصيات الثانوية، في إغناء الخط الدرامي الرئيسي وتعميقه. وحقق أيضاً توازناً موفقاً وملحوظاً بين السيطرة على أدواته الفنية والتقنية كمخرج، وبين المضمون الذي يطرحه الفيلم.
ففي بيت البوسطجي، الذي استأجره من العمدة، وكان مهجوراً في السابق.. هذا البيت كان يمثل سجن البوسطجي في القرية. فالبيت واسع جداً، إلا أن جدرانه متهدمة، والمكان مشبع بالرطوبة، مما ساهم في إحساس البوسطجي بالكآبة، وانزوائه في ركن من أركان هذا البيت الكبير. كما إن الصور الإباحية التي لصقت على الجدران، ومشهد الغازية، إضافة إلى هذا الجو القذر الذي يعيشه، كل هذه العناصر تمثل حرمانه الاجتماعي والجنسي، وتحول هذا الحرمان إلى وسيلة خاطئة للإشباع. كذلك مكتب البوسطة، بتكوينه وشباكه الحديدي، يمثل سجناً آخراً والبوسطجي سجيناً فيه.
أما مشهد الاغتصاب في برج الحمام، فيتحدث عنه حسين كمال، ويقول: (…أنا أنفذ اللقطة أو المشهد ليعطي معنى محدداً.. فمثلاً عندما قرأت مشهد البرج في السيناريو أول مرة، كنت أسمع طبولاً تدوي في المكان، وبنيت تصوري للمشهد على أساس توظيف الكاميرا والموسيقى والديكور والإكسسوار لخدمة مضمون محدد.
فمع الطبول قدمت سلامة ومريم بثلاث زوايا رئيسية مختلفة، تهدف إلى تعريف المتفرج بالمكان الذي يجمع بين الحمام الأبيض رمز البراءة والطهر، في حركة متواصلة من أعلى ومن أسفل، ثم الرجل والفتاة على أرض البرج، وكان الميزانسين مرسوماً، في محاولة لعجنهم مع بعض، أو تذويبهم داخل بعض. ثم بزاوية منخفضة مع صرخة الاغتصاب، وتسكن الحركة فجأة، لتبلور موقف الرفض والإدانة…).(3)
ثم يأتي مشهد المجلات الإباحية في مكتب البوسطة، والذي أعطى فكرة سيئة لأهالي القرية عن البوسطجي، واستغلال هذه الفكرة لتحطيم شخصيته. وبالرغم من رفضهم لما في هذه المجلات ظاهرياً، إلا أن أمنيتهم هي ما بداخلها.. هنا إبراز لذلك التناقض في شخصياتهم.
يتحدث حسين كمال عن أسلوبه السينمائي، فيقول: (…أسلوبي أستمده من العمل نفسه، آخذ المشهد وأذوب فيه، فالمشهد هو الذي يفرض عليّ الطريقة التي أنفذها به.. العمل المكتوب هو الذي يفرض ويحدد أسلوب المعالجة، حيث إنني أترك نفسي له تماماً…).(4)
عندما أراد حسين كمال إخراج فيلم (البوسطجي)، سافر إلى أسيوط وأقام ثلاثة أسابيع هناك، إضافة إلى ذهابه إلى قرية النحيلة، والتي تبعد ساعة ونصف عن أسيوط، يراقب ويتعايش مع جو الفيلم قبل البدء في الإخراج. فقد كان حسين كمال شديد الحرص على إظهار القرية بشكل واقعي صادق، ومختلف عن الشكل الذي ظهرت فيه فيما سبق من أفلام قدمتها السينما المصرية. كذلك استطاعت شخصيات الفيلم أن تقنعنا بمصداقيتها وذوبانها في هذا الواقع، وكانت موازية لكافة العناصر الفنية الأخرى.
هنا.. ليس بوسعنا إلا التأكيد على أن حسين كمال في فيلمه (البوسطجي)، استطاع أن يحطم بعض قيود السينما التقليدية في الستينيات من القرن الماضي، وتقديم شكل فني وسينمائي جديد ومغاير، قد وضعه في مصاف المخرجين المجددين آنذاك.
بطاقة الفيلم
شكري سرحان + زيزي مصطفى + صلاح منصور + سهير المرشدي + سيف عبد الرحمن
سيناريو: صبري موسى، دينا البابا
حوار: صبري موسى
قصة: يحيى حقي
تصوير: أحمد خورشيد
مناظر: حلمي عزب
موسيقى: إبراهيم حجاج
مونتاج: رشيدة عبد السلام
إنتاج: شركة القاهرة للإنتاج السينمائي
1،2 مجلة الحياة السينمائية السورية ـ شتاء 1980
3،4 مجلة المسرح والسينما المصرية ـ يوليو/أغسطس 1968