من ذاكرة السينما.. خرج ولم يعد
حسن حداد
المدينة عند المخرج محمد خان، تبدو ذات شخصية واضحة في أغلب أفلامه، بل ويوليها اهتماماً زائداً كمكان وشخصية.. فالمدينة عنده هي عنصر هام ومشارك في الحدث، وشخصية لا تقل أهمية عن بقية شخصيات الفيلم. والمدينة في أفلامه ليست فقط خلفية للأحداث، إنما هي أكبر من ذلك. فهو يقدمها بشوارعها وأزقتها الضيقة، يقدمها بكل تناقضاتها وإحباطاتها. وليس فيلمه (الحريف) إلا مثالاً يوضح تماما مدى التعلق والعشق الشديدين من محمد خان للمدينة.
وبالرغم من كل هذا العشق والولع للحياة بالمدينة، إلا إن محمد خان في فيلم (خرج ولم يعد) ـ الذي قدمه عام 1984 ـ يدعو بشكل غير مباشر طبعا للهرب من المدينة إلى الريف. ربما تبدو هذه الدعوة خيالية ورومانسية بعض الشيء، إلا أن مخرجنا – بدعوته هذه – يضع بطله أمام نموذجين للحياة.. المدينة بكل ما تحويه من أزمات وإحباطات، والريف بما يمثلـه من جمال وعفـويـة وبساطة، ويدعوه بالتالي للهرب من متاعب وضجيج المدينة إلى مكان هادئ يخلو من كل ذلك.
يأخذنا خان مع بطله عطية (يحيى الفخراني)، لنتابع رحلة هذا الشاب في بحثه عن أسلوب جديد للحياة، بعد أن ظلمته المدينة. ورغم انه موظف بسيط في أرشيف إحدى الوزارات، يحلم بأن يصبح مديرها العام حتى لو اقتضى ذلك عشرين عاما من الانتظار.. فهو يسكن منزل آيل للسقوط في إحدى حواري القاهرة الفقيرة، وبسبب أزمة الإسكان، نراه يؤجل زواجه من خطيبته لمدة سبع سنوات.
ولكنه إزاء تهديد والدة خطيبته بفسخ الخطوبة، ويقرر الذهاب إلى الريف ليبيع قطعة أرض يملكها هناك كحل لأزمة الشقة هناك في الريف. إنما لظروف طارئة، يمكث فترة ليست بالقصيرة، يتعرف خلالها على كمال بيك (فريد شوقي) وابنته خيرية (ليلى علوي) اللذين يوقظان في داخله حب الجمال والطبيعة، ويغريانه بالمكوث معهما في الريف، هنا يجد نفسه في صراع داخلي بين العودة إلى المدينة التي اعتاد على الحياة فيها رغم قسوتها، وبـين الاستقرار في القرية التي جذبته ببساطتها وطبيعتها الساحرة والخلابة. في النهاية يحسم هذا الصراع لصالح الريف الذي وجد نفسه فيه بجانب خيرية التي أحبها.
بهذه الفكرة البسيطة جدا والتي استوحاها السيناريست (عاصم توفيق) من رواية (براعم الربيع) للكاتب ه.أ.بيتش يحاول محمد خان إقناعنا بطرحه الهروبي هذا، وذلك عندما يظهر لنا المدينـة بصورة بشعة ومخيفة، والريف بصورة جميلة ومشرقة ورومانسية. حيث يضع بطله في بيئة شعبية فقيرة، ويتابع بكاميراته ـ وبلقطات كبيرة ومجسمة ـ التصدعات والشقوق في البيت الذي يسكنه، والماء الملوث الذي يصل إليه. هذا إضافة إلى اللقطات ذات الإيقاع السريع في مشهد خروجه صباحاً من البيت وعبوره الأزقة حتى وصوله إلى مكان عمله.
في هذا المشهد ـ بالذات ـ والذي يبدو أشبه بشريط تسجيلي ينبض بالحياة الواقعية اليومية، يستخدمه محمد خان للتعبـير عن البؤس والفقر والتلوث الذي يعيشه عطية في المدينة. نشاهده يحاول تجنب الرائحة الكريهة المنبعثة من القمامة المتكومة على جانبي الأزقة والطرقات، ويحاول كذلك تفادي الاختناق من جراء الغبار ودخان السيارات الذي يكاد يملأ رئتيه. هذا إضافة إلى المحيط الاجتماعي والوظيفي الصعب، والشخصيـات المنفردة والاستفزازية التي يتعامل معها يوميا (زميله في العمل، أم خطيبتـه، وحتـى خطيبتـه نفسها).. كل هذا، لابد أن يعطي انطباعا للمتفرج، بأن هذا الشاب يعيش حياة صعبة ويعاني من إحباطات كثيرة غير قادر علي تجاوزها.
ثم بعد ذلك، ينقلنا، محمد خان مع عطية إلى الريف، إلى الطبيعة الجميلة والسارة، ليضعنا في مقارنة بيئية غير متكافئة. فعطية، بعد أن تعود أن يتنفس الهواء النقي ويتنقل وسط الحقول ليمارس هوايته القديمة، ويستعيد كذلك توازنه النفسي والعاطفي. وعندما يلتقي بخيرية يرفض العودة إلى المدينة ومواجهة كل أزماتها، في مقابل التضحية بكل هذا السحر والنقاء في الريف.
صحيح بأن المخرج محمد خان بفيلمه (خرج ولم يعد – 1984) قد نجح في كسب تعاطف المتفرج مع بطله عطية، وذلك عندما سخر كافة أدواته الفنية والتقنية لتجسيد فكرة الصراع بين المدينة والريف، إلا انه جسد هذا الصراع بشكل لا يرتبط بالواقع الاجتماعي والاقتصادي، وإنما جعله محصورا في البيئة فقط. فالصراع هنا لا يتم بين طبقات اجتماعية أو أفكار متباينة أو حتى بين قيم أخلاقية أو فلسفية.. فبدلاً من الدعوة إلى الالتصاق بالإنسان في كل مكان، في الشوارع والمصانع والبيوت بما فيها الطبيعة، نرى محمد خان يكتفي ويصر على إلباس المدينة ثوب الشر والريف ثوب الخير.
ثم لا يخفى على المتفرج ملاحظة الاختلاف المتباين للسرد الدرامي في البيئتين، ففي المدينة نجد الكآبة والحزن يسيطران على المكان وشخصياته، بينما في الريف يتجه السيناريو اتجاها آخر، وذلك عندما يضيف عنصري الفرح والكوميديا على الأحداث الدرامية، حتى يضمن أيضا انحياز وتعاطف المتفرج لفكرة الفيلم وبطله عطية. أيضا محمد خان كمخرج ـ في فيلمه هذا ـ لا ينحاز إلى الريف مضموناً فحسب، بل وحتى تقنياً وجمالياً، ففي مشاهد المدينة نلاحظ التركيز على استخدام الإضاءة المعتمة واللقطات الكبيرة لإبراز العيوب، هذا إضافة إلى المونتاج السريـع والمتوتر لكي يعطي إيقاعاً حادا للسرد الدرامي. أما في مشاهد الريف فنجد اللقطات عامة واكتر جمالاً في أغلبها، والإضاءة ساطعة والألوان تمتاز بالشفافية إضافة إلى تجنب السيناريو إظهار أي شخصيـة شريرة أو غير مستحبة، وإبراز شخصيـات تتحرك في تلقائية معتادة بلا تذمر أو مشاكل أو هموم.
ومما لا شك فيه أن محمد خان كان واعيا لكل ذلك، كما جاء في تصريحاته الصحفية.. فهو في هذا الفيلم يقدم محاولة للتعبير عما يؤرقه كفنان يحمل رؤية فنية وسينمائية خاصة وذاتية. كما انه قدم فيلماً ذو إطار رومانسي مطعم بالكوميديا، استطاع من خلاله الوصول إلى قلب وعقل المتفرج العادي، بعد أن كانت أفلامه السابقة لا تلقى رواجا جماهيريا. فهذا المتفرج قد تعرض لعملية تشويه من قبل الأفلام المصرية الهابطة، ووجد نفسه الآن أمام فيلم يقدم له كوميديا خفيفة ونظيفة نابعة من الموقف أو الحدث الدرامي أساسا، إضافة إلى أن الفيلم امتاز بالتلقائية والسلاسة وبالحوار اللماح والمتدفق.
أخيرا، وبغض النظر عن اختلافنا مع ما جاء في المضمون، فان فيلم (خرج ولم يعد) عمل جميل يتخلى فيه محمد خان عن نظرته الحزينة التي ضمنها جميع أفلامه السابقة. صحيح بان الفيلم قد ظهر بشكل يختلف عما هو سائد وتقليدي، إلا انه في نفس الوقت لا يشكل خطوة متقدمة لمحمد خان كرؤية فكرية وفنية حيث كان بعيدا ـ إلى حد ماـ عما وصل إليه من تجديد ورؤية سينمائية متطورة في فيلمه الأسبق (الحريف).
يقول محمد خان: (…لو تحدثنا عن خرج ولم يعد، أعتقد أنه تمت فلسفته أكثر مما يجب. وأنا أنجزه كنت أحس أنني أعمل قطعة من الشكولاتة، الفيلم بالنسبة لي له مذاق وطعم وفيه جديد أيضاً. في هذا الفيلم أحترم الموظف المطحون في المدينة ولجوئه إلى الريف بشك كوميدي ساخر. أنا لا تخصني بالمرة مسألة العودة إلى الريف لأضعها كمانشيت في نهاية الفيلم، لأنني لم أكن ولا أريد أن أكون مصلحاً اجتماعيا، أنا فنان أعبر عما يؤرقني في الحياة من عيش، إن ذلك يؤرق غيري أيضاً، وبالتالي يتجاوب معه!!).
وفي حديث آخر يقول خان: (…يقولون إن الريف جنة في الفيلم، أقول نعم أردت ذلك، أردت المبالغة لأوصل الفكرة بطريقة معينة ولإظهار المفارقة الساخرة، لكن لا تنسوا أن البطل حين يطأ بقدميه للمرة الأولى يجدها في مخلفات حيوانية، ولا تنسوا نهايته. ميزته في نظري هي تلقائيته وتدفق حواره السلس جداً، بلا اللدغات الدرامية المعهودة!!).