من “سمع هس” إلى “الممر”.. شريف عرفة: 30 عاماً من التحولات الفنية
تكريم المخرج الكبير ومنحه جائزة فاتن حمامة قرار ذكي من مهرجان القاهرة بعد مسيرة عطاء طويلة قدم خلالها ألوان غنية متعددة
أسلوبه يحاكي الصقور في طبيعة حياتها الوعرة وقدرتها على اقتناص الفرص
علا الشافعي
في المرات التي صادفت فيها المخرج الكبير شريف عرفة، وتحديدا المرة التي التقيته عند الكاتب المبدع المخضرم وحيد حامد، كان عرفة يقبل بخطوات واسعة واثقة، وهي الثقة التي انعكست أيضاً في جلسته وطريقة حديثه. يطرح تساؤلاته بطريقة واضحة بجمل لا تعرف الاسترسال. يستمع أكثر مما يتحدث، وكأن هناك شخص آخر بداخله لديه مهمة أخرى في نفس اللحظة، فهناك شريف الحاضر بجسده وعقله، وشريف آخر يسجل ويصنع شريطاً موازياً من التفاصيل المحيطة، وعندما تجلس إليه يصعب عليك أن تعرف هل يحبك أم لا ولكن من تفاصيل صغيرة قد تدرك أنه يقدرك.
شريف عرفة المبدع وصاحب الإنتاجات المتنوعة والمتميزة، ابن المخرج المهضوم حقه سعد عرفة، والذي يتم تكريمه في الدورة الـ 41 لمهرجان القاهرة السينمائي التي تعقد في 20 نوفمبر الجاري، بمنحه جائزة "فاتن حمامة" التقديرية. وهو التكريم الذي يأتي في وقته.
يعد تكريم عرفة اختيارا شديد الذكاء من محمد حفظي رئيس المهرجان خصوصا وأن عرفة لا يزال في قمة عطاءه، وهو مخرج لا يعرف سوى العمل فقط، وتنوعت تجاربه وأفلامه السينمائية ما بين الكوميدية والسياسية والاجتماعية وأفلام الفانتازيا والأكشن والتاريخية.
عادة ما تجمع أفلام عرفة بين القيمة الفنية والقدرة على تحقيق إيرادات، وهو لا يتواجد كثيرا على المستوى الإعلامي، فهو ينجز عمل أو يستعد لجديد. على مدار 30 عاما منذ أن بدأ العمل في الإخراج السينمائي، والكتابة، والإنتاج.
شريف صاحب وجه حاد الملامح، من يطيل النظر إلى وجهه ويتأمل ملامحه وتحديدا عينيه التي دائما ما تنظران بحياد، يستدعي فورا طائر الصقر، وهو أحد الطيور الجارحة المعروف عنه المهارة في الصيد، والذي يمتاز أيضا بمهارتها الفائقة في التحليق والطيران؛ لأنّها تمتلك جناحين مدببين يسمحان لها بتغيير اتجاهها بسرعةٍ كبيرةٍ أثناء طيرانها، وهي حادة الذكاء.. تلك المواصفات تنطبق إلى حد كبير على مخرجنا المبدع ومشواره، عرفة والذي ولد لأب يعشق السينما والإخراج السينمائي، منزل مليء بأحاديث عن السينما والاستعداد لمشروعات، والد يحلم بإنجاز الكثير، ومكتبة كبيرة متنوعة، يقرأ فيها روايات كلاسيكية وبنفس الحماس يلتهم مجلات الأطفال وكتب الألغاز والمغامرات.
في ظل تلك النشأة رغب عرفة في العمل بنفس مهنة والده، إلا أن والدته لم تكن تؤمن بهذا المجال فكانت كأي أم تريد لابنها الأكبر أن يصبح طبيبا أو مهندسا شهيرا، ولكن كان لوالده دور كبير في دعمه وتشجيعه، بعد أن التحق بالمعهد العالي للسينما، ومن حسن حظه أنه تتلمذ على يد كبار أساتذة الإخراج السينمائي في المعهد وكان منهم الفنان محمود مرسي والذي درس له لمدة ثلاث سنوات إلى جانب عمالقة الفن ما جعله يستفيد كثيرا من خبراتهم الطويلة، هذا إلى جانب عمله كمساعد مخرج للعديد من مخرجينا منهم سعد عرفة وحسن الإمام ومحمد خان، واشتغل في أكثر من ثلاثين فيلماً في أثناء دراسته بالمعهد، إما كمدير للإنتاج أو مخرج مساعد، وتخرج من المعهد العالي للسينما في القاهرة عام 1983.
وبنفس إحساس الصقر الذي يقف ليراقب، كان عرفة يتحرك داخل الاستوديوهات ومواقع التصوير يعرف أن هؤلاء المبدعون ينجزون أعمالا مميزة تملك سحرها الخاص، إلا أنه كان يبحث عن شيء مختلف يرضي طموحه ويتماشى مع رغبة هذا الصقر الجامحة في التحليق طوال الوقت لأنه ببساطة كان يسأل نفسه لماذا يصنع أعمالا تحاكي أعمال من سبقوه، لماذا لا يكون عنده فضائه الخاص؟
بنفس حماس وروح الصقر الذي يبني العش الخاص به بداخل الشعاب الصخرية، أو في الشجر، وأحيانا أخرى على الأرض، وعادة ما تكون هذه الأعشاش مبنيّة من العصي أو الأعواد، وفي بعض الأحيان تكون هذه الأعواد داخل أعشاب أو مواد نباتيّة مختلفة، صنع عرفة عالمه المتنوع شديد الاختلاف.
المرحلة الصخرية
اختار عرفة في أولى تجاربه السينمائية التي قدمها في عالم الإخراج، أن ينحت عشه -نقصد فيلمه – في الصخر، وقد كان باكورة أعمال شريف عرفة كمخرج عام 1986، مع زميله السيناريست ماهر عواد.. عرفة وعواد في تلك المرحلة كانا يملكان رؤى مختلفة للسينما أو ضرورة تقديم فيلم مختلف بعيدا عن السينما التي كانت رائجة في هذا الوقت، حيث شهد هذا العام العديد من الأفلام الهامة لمخرجين جدد متميزين ومن هذه الأفلام "الطوق والأسورة " لخيري بشارة، و"الجوع" لعلي بدرخان، و"البريء" لعاطف الطيب، و"عودة مواطن " لمحمد خان، وغيرها من الإنتاجات الهامة، إضافة إلى الأفلام التجارية وأفلام المقاولات.
وقدم عرفة وعواد فيلمهما الأول (الأقزام قادمون)، وكان تجربة جديدة وجريئة، لم تحقق النجاح الجماهيري وقتها بل أن البعض لم يستوعب تلك التجربة، وكيف لمخرج وكاتب في فيلمهما الأول ألا يعتمدا على فكرة تجارية أو نجم ونجمة ليقدما نفسيهما إلى السوق السينمائية، بل كان أبطالهم من الأقزام إلى جانب النجم يحيي الفخراني، والفيلم حمل إدانة واضحة لمجتمع الاستهلاك، ومافيا الإعلانات التجارية التي تسعى إلى تجميل الزيف.
ورغم عدم تحقيق الفيلم الأول لنجاح كبير، إلا أن عرفة وعواد واصلا العمل في نفس الخط وكأنهما يصران على النحت في الصخر وتحريك المياه بأماكن أكثر وعورة حيث قدما فيلمهما الثاني (الدرجة الثالثة – 1987) والذي حمل رؤية فانتازيا حول الصراع الأزلي بين شريحة أصحاب المال والسلطة والمهمشين أو أولئك الذين يعيشون على هامش الحياة وذلك من خلال تلك العلاقة بين جمهور الدرجة الثالثة لكرة القدم وبين أفراد المقصورة الرئيسية أصحاب السلطة والنفوذ، والفيلم مني بفشل ذريع في دور العرض السينمائي، رغم أنه كان من بطولة النجمين أحمد زكي وسعاد حسني.
وكان عدم نجاح الفيلم وإحباط النجمة سعاد حسني، كفيل بأن يجعل عرفة يتوقف عن تقديم سينما مغايرة، ولكنه واصل تجربته الثالثة مع رفيق البدايات ماهر عواد وبداخله يقين أن تلك التجارب ستعيش وسيعاد قراءاتها سينمائيا بشكل مختلف فقدما الفيلم الثالث (سمع.. هس – 1990)، والذي اعتبره المخرج خيري بشارة بداية فعلية لعصر جديد للسينما المصرية، وكان المخرج يسخر فيه من الوطنية الزائفة واستغلال البسطاء حيث صار بطلي الفيلم " حمص وحلاوة"، من أشهر الشخصيات السينمائية إضافة إلى نشيد "أنا وطني وطني وبطنطن"، والفيلم ينتمي للكوميديا الاجتماعية والفانتازيا الاستعراضية. وما بالك عندما يكون الاستعراض والغناء من بطولة ممدوح عبد العليم، وليلي علوي وهو الاختيار الذي يعكس مدى جموح عرفة وعواد ورغبتهم في القفز بعيدا عن المعتاد والدارج.
الأرض الثابتة
وبعد تلك المرحلة أدرك عرفة أن عليه أن يبدأ مرحلة جديدة، وأن تكون هناك أرض ثابتة يصنع فيها عشه القادم أو أفلامه الجديدة، بعيدا عن الرغبة في التحليق بعيدا وتحدي الثابت ومحاولة زحزحته، حيث شكل لقائه بالكاتب المبدع والمتنوع أيضا وحيد حامد مرحلة جديدة في مشوار عرفة السينمائي، والذي كان يعي جيدا أهمية تلك الانطلاقة المختلفة، حيث قدم الثلاثي (حامد وإمام وعرفة) عددا من الأفلام التي تملك حسا كوميديا وسياسيا واجتماعيا ساخرا بدءاً مع "اللعب مع الكبار" في 1990، مرورا بـ"طيور الظلام، والإرهاب والكباب، والمنسي"، وهي الأفلام التي حققت نجاحا نقديا وجماهيريا كبيرا.
ولكن صفة التحدي التي تجعل الصقر يحن إلى صعوبة بناء عشه في الصخور، وهو ما جعل عرفة يعود للعمل مع ماهر عواد بعد "اللعب مع الكبار" ويقدم واحدا من أهم أفلامه وهو "يا مهلبية.. يا" والذي يطرح من خلاله رؤية فانتازيا عن النضال السياسي في فترة الأربعينات، وذلك من خلال سيناريو بديع ضمن استعراضات متميزة تشكل بعدا هاما في التطور الدرامي بالفيلم، من خلال كلمات بهاء جاهين التي تضيف للمعني الدرامي والبصري للفيلم وموسيقي مودي الإمام التي تعطي أفقا ورحابة لخيال عواد وعرفة الجامح.
ماهر عواد
في ظل التحولات التي شهدتها السينما المصرية في منتصف التسعينات، وتحديدا فيلم "إسماعلية رايح جاي"، والذي قلب موازين السوق السينمائية على مستوى الموضوعات وظهور نجوم جدد، وصراع جيلين ظل واحد منهما (جيل عادل إمام، ونور الشريف، ونجمة الجماهير نادية الجندي) كان من الممكن أن يتخذ عرفة قرارا بالابتعاد عن تقديم سينما تحاكي ما يحدث مكتفيا بدوره كمنتج ومخرج إعلانات، إلا أنه كان يملك ذكاءً حاداً، وترمومتر تمكن من خلاله أن يتواجد ليس فقط، ولكن بقوة، وقدم كوميديا متميزة تعتمد على المواقف "الناظر، وعبود على الحدود"، كوميديا خالصة ودراما اجتماعية نابهة “اضحك الصورة تطلع حلوة" ، والأكشن في "مافيا"، "والجزيرة" بجزأيه، وتربعت العديد من إنتاجاته على عرش الإيرادات ثم توالت إبداعاته مرورا بـ"الكنز بجزأيه"، ووصولا إلى فيلم "الممر" والذي نال عنه عرفه العديد من التكريمات.
عرفة ليس فقط مخرجا صاحب أسلوب سينمائي مميز، وأفلام تحمل متعة فنية وبصرية، ولكنه بات أيضا مؤسسة سينمائية حيث أطلق العديد من النجوم ومنهم: كريم عبد العزيز، ومني زكي، ومحمد سعد، إلى جانب عمله مع كبار النجوم والذين قدمهم بشكل مختلف، وتتلمذ على يده العديد من المخرجين الشباب ومنهم مروان وحيد حامد وأحمد علاء وغيرهم.