عماد النويري
في “السراب” لعب نور الشريف أول بطولة مطلقة حيث جسد شخصية كامل رؤبه لاظ، البطل الشاب الذي دللته أمه كثيرا، وحولته من شدة حبها وتدليلها له إلى إنسان بلا إرادة، غير قادر على التصرف. وتصدم زوجته في ليلة زفافها بعدم رجولة كامل، لكنها تكتشف بعد مضي الوقت أنها مجرد حالة نفسية سببتها الظروف غير الطبيعية التي مر بها. لكنه شيئا فشيئا يسترد ثقته في نفسه وفي رجولته التي ظن أنها لن تعود.
استخدم نور الشريف في أداء هذا الدور أدواته الداخلية والخارجية في إظهار الانفعالات الصعبة والأبعاد النفسية العميقة. والتقط نور الدور المميز بحسه الفني، واعتبره نوعا من التحدي ومن تنويع الأدوار، إضافة إلى تقديم مشكلة شريحة موجودة في المجتمع.
وفي “زوجتي والكلب” أدى نور الشريف دورا يحسب له، وتميز أداؤه بالصدق والبساطة والإقناع. فحركته وطريقة أدائه للحوار والتعبيرات الصامتة كانت انعكاسا صادقا لشخصية الفتى المراهق الذي يعاني الوحدة والكبت الجنسي.
وكان عام 1975 واحدا من أغزر أعوام نور الشريف على الإطلاق، فقد قام ببطولة 12 فيلما من أهمها “الكرنك” من إخراج علي بدرخان وبطولة سعاد حسني وكمال الشناوي وفريد شوقي، والفيلم يمثل انتقادا حادا لثورة يوليو التي قبل أن تنهزم في عام 67، هزمت مثقفيها وكتابها.
وفي العام 1979 قدم فيلم “مع سبق الإصرار”، وجسد فيه شخصية مدرس اكتشف خيانة صديق له تخلى عن إنسانيته. واستطاع نور الشريف أن يعبر عن المعاناة الداخلية للمدرس بشكل لافت، فالدور مركب وعامر بالأحاسيس، واداه نور بشكل سلس وأعطاه قلبه ونبضه وأعصابه.
وعلى الخط المقابل لمحمود ياسين يقف نور الشريف هذه المرة ليقدم لنا لوحة إنسانية متكاملة ذات أبعاد غائرة العمق والتأثير، من الزوج الطيب والمجروح في رجولته إلى الأب الذي يفقد تماسكه الإنساني والمجرم الراقد في أعماقه، المبيت النية على الانتقام. وفي هذا الدور المركب الصعب استطاع نور أن يتحرك في شخصية جديدة تماما عليه. تناسى النجم اللامع وفتى الشاشة وأصبح في صدق وواقعية “مصيلحي” بشعره الأغبر وأعماقه الممزقة. لقد نجح في تجسيد شخصية تحسب له كنموذج لأداء الممثل القدير ومدى فهمه للشخصية التي يتقمصها. ويمكن اعتبار دور “مصيلحي” علامة بارزة في حياة نور التمثيلية السابقة واللاحقة.
ويعتبر فيلم “حبيبي دائما” إنتاج العام 1980 واحدا من أهم الأفلام الرومانسية في السينما العربية، وعلى رغم نسجه على منوال الفيلم الأميركي “قصة حب” أنجز الفيلم بصياغة مصرية، قد نراها فيمن حولنا من محبين ونسمعها عمن حولنا من قصص وحكايات. أنها تنويعة مختلفة من الشخصيات التي حرص نور الشريف خلال مسيرته السينمائية على تجسيدها.
وفي العام 1980 قدم نور الشريف “ضربة شمس” وغامر بتقديم محمد خان كمخرج جديد سيكون له شأن بعد ذلك. غامر نور بماله الخاص في سوق لا يحتمل المغامرات، وكانت بداية دور سيلعبه فيما بعد كمنتج واع وممثل نظيف يحمل بعض القيم والمثاليات، وبعض الطموحات الفنية التي لم يعد أحد يجرؤ عليها. خاض مجال الإنتاج ليعمل ما يحبه ويرتضيه ويتمناه، وليكون قادرا على الاختيار.. اختيار ملامح البطل الذي سوف يكون بعيدا عن قوالب المنتجين واختيارات السوق التي لا تعبر في أغلب الأحوال عن واقع الحياة.
وفي العام 1981 قدم نور الشريف فيلم “أهل القمة” عن قصة الكاتب نجيب محفوظ وسيناريو مصطفى محرم. و”أهل القمة” هنا هم اللصوص الجدد الذين استفادوا من قوانين الانفتاح الاقتصادي. ويمكن اعتبار “أهل القمة” وثيقة مهمة تثبت انه في مجال السينما مثل بقية مجالات الفن والفكر، كان هناك من يقول الحقيقة حتى إذا كانت المتاعب من نصيبه. بطل الفيلم زعتر النوري بطموحاته وأحلامه باحتلال مكانة جديدة في عالم جديد، كان في تلك الفترة تعبيرا عن شريحة كاملة تتهيأ لاحتلال مكان الصدارة في المجتمع.
وفي العام 1983 عرض فيلم “سواق الأتوبيس” قصة محمد خان وسيناريو بشير الديك وإخراج عاطف الطيب. ويقدم الفيلم محاولة الابن حسن سلطان (نور الشريف) إنقاذ ورشة الأخشاب التي يملكها والده (عماد حمدي)، وتمثل له حياة الأب وكفاحه وإصراره. ولكن لتراكم الديون تعرض الورشة للبيع في المزاد، وحسن مازال يقاوم. في “سواق الأتوبيس” الذي يتسم برحابة الرؤية ودقة تحليل الواقع، يتابع عاطف الطيب رحلة الوعي عند بطله.
يرصد الفيلم مراحل التغير والتحول من المراقبة والتأمل حتى لحظة المواجهة والكشف عن التغيرات التي حدثت في بنية المجتمع المصري في السبعينات وما صاحبها من اهتزاز لسلم القيم واستشراء للفساد وسيادة القيم المادية وطغيان الجشع والطمع، بالإضافة إلى شراسة الواقع الجديد الذي أدى إلى انعدام الدفء في العلاقات العائلية والإنسانية. الورشة في “سواق الأتوبيس” هي المرادف للحياة / الوطن ومعادل موضوعي للقيم النبيلة التي يدافع عنها حسن بطل الفيلم. وبطل الفيلم معادل لكل الأبطال الشرفاء الذين انتقلوا من تأمل الواقع إلى مواجهته مهما كان الثمن. ويمكن القول إن صناع “سواق الأتوبيس” استطاعوا أن يعبروا بصدق عن اللحظة التاريخية وأن يضعوا على المستوى السينمائي لبنة قوية وأساسية في صرح الواقعية الجديدة.
وفي العام 1984 قدم نور الشريف فيلم “آخر الرجال المحترمين” عن الأستاذ فرجاني المدرس الذي يعتبر أطفال المدرسة مسؤوليته الخاصة على كل المستويات الشخصية والعامة. وهو مرب فاضل مهمته بناء عقل الإنسان ووجدانه بكل الصدق والحب، ولا يستطيع تصور وجود عوامل أخرى تهدم ذلك البناء. ومن خلال شخصية فرجاني أيضا أكد نور الشريف قدراته الأدائية، وقدم بعض ملامح البطل الطيب الذي يدخل في مواجهة غير متكافئة مع الروتين والفساد الحكومي.
وفي “الصعاليك” العام 1985 ومن خلال متابعة اثنين من الصعاليك إلى القمة جرى تفنيد أكذوبة رجال الأعمال العصاميين. حاول الفيلم من خلال أبطاله الصعاليك أن يقدم تحليلا لأساليب الصعود غير المشروع بوعي فني واجتماعي واقتصادي وسياسي. لقد حاول المخرج داود عبد السيد البحث عن المنطق النفسي والاجتماعي في تصرفات شخصياته، كما استطاع الكشف عما يعتمل في داخلها من الحب والاشتهاء والندم والخيانة والجشع، كل ذلك من خلال عرض واقعي صادق للحياة. لقد حاول عبد السيد أن يبرر أفعال بطليه وانحرافهما نحو الشر ونجح في ذلك إلى حد كبير، خصوصا انه اعتمد على أداء ممثليه اللذين قدما مباراة متواصلة في الأداء التلقائي نجح فيها الاثنان: نور الشريف بتقديمه عرضا لقدراته على الأداء الطبيعي والتعبير الحركي، ومحمود عبد العزيز بتمكنه من شد الانتباه بحيويته وخفة دمه.
وفي فيلم “الزمار” العام 1985 قدم لنا نور الشريف جانبا من حياة الزمار حسن، الشاب المطارد والمتنقل من قرية إلى قرية من قرى الصعيد بحثا عن الأمان والاستقرار.
وفي “زمن حاتم زهران” 1988جسد شخصية الشاب الانتهازي الذي يهرب من أداء الخدمة العسكرية ويسافر إلى أميركا. وهو على النقيض من أخيه يحيى الشهم الوطني الذي يستشهد في حرب 73، في الفيلم صيحة مبطنة ثم صرخة عالية عن الوضاعة التي وصل إليها الانفتاحيون الجدد بمحاولة ضربهم لكل القيم الأصيلة بحثا عن الثروة والمجد.
وعن رواية للكاتب نجيب محفوظ قدم نور الشريف العام 1990 فيلم “قلب الليل”، وفيه معالجة لقضية فلسفية مهمة أتعبت الفكر الإنساني كثيرا، هي قضية الحرية والاختيار مرورا بالأشواق والرغبات التي تعتمل في روح الشخصيات فتنطلق لتحطم النواهي والممنوعات. حاول الفيلم أن يتناول قضية اليقين المهتز بالشكوك والأسرار الغامضة، التي غالبا ما يعجز العقل البشري عن كشفها أو إدراكها. وكانت إطلالة أخرى على بعض ملامح البطل المعاصر الذي ينشغل أحيانا بأزمة الوجود وأزمة البحث عن هوية.
وفي “البحث عن سيد مرزوق” العام 1991 خاض نور الشريف تجربة مختلفة وفريدة عندما تجاوز داود عبدالسيد مؤلف ومخرج الفيلم حدود الواقعية الصارمة وقرر أن يقفز فوق التفاصيل والعلاقات المرتبطة بالواقع ليخلق عالما مختلفا يرتكز على معطيات الواقع، لكنه يقوم على منطق خاص يمزج بين الحلم والواقع من دون تحديد لما بينهما من حدود، حيث أن الواقع هنا مجرد جسر يعبر عليه الفنان لينفذ إلى جوهره محققا نوعا من الواقعية الجسورة التي تقترب إلى حد ما من السريالية.
وفي العام 1992 جسد نور في فيلم “دماء على الأسفلت” شخصية الدكتور ثناء الذي يعمل في احدى المنظمات الدولية، وعندما يعود بعد غياب يفاجأ بأن الانحلال أصاب أسرته. ويحاول إصلاح الأمور مهما كانت الخسائر. كان نور الشريف قادرا على رغم الاختيارات المحدودة في السينما في ذلك الوقت على الاختيار بوعي ليقول كلمته من خلال أبطاله.
وفي العام 1992 قدم نور الشريف فيلم “ناجي العلي” عن شخصية رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي صاحب الشخصية الشهيرة “حنظلة”. وقدم نور تنويعة جديدة لملامح البطل الذي يحمل في قلبه الهم العربي ويرغب في تجاوز الواقع المهزوم ويحلم بالوطن الذي لا يدوسه الغرباء.
وفي العام 1996 قدم “ليلة ساخنة”، ومع عاطف الطيب قام باستخراج أحشاء القاهرة في ليلة رأس السنة، وأشار البطل إلى أمراض المدينة وتوحشها. وكان الفيلم بمنزلة تقرير بصري شديد السخونة عن افتقاد الدفء وتنامي تجارة التعصب والتشدد وغياب الوعي والانغماس في الملذات الصغيرة. كان “ليلة ساخنة” تنويعة جديدة على “سواق الأتوبيس”، لكن من خلال سائق تاكسي هذه المرة يستكشف ويكشف عن قاهرة التسعينات الشرسة التي لا ترحم مواطنيها، المفعمة بالحب الذابل والكراهية البغيضة، المحتشدة بالأوغاد والسفلة، وبالغلابة والمقهورين، المزدحمة بالجلادين والضحايا.
المصير
وفي “المصير” الذي عرض العام 1997 برع نور الشريف في تجسيد شخصية ابن رشد، وصرخ في أحد المشاهد بإحساس المثقف المهموم بإيصال فكره وعمله للناس “أنا بكتب إيه ولمين ولا اللي بكتبه مابيوصلش لحد”. استعار “المصير” حياة واحد من أكبر التنويرين، وعلى لسانه جاءت دعوة مهمة عالية الصوت واللهجة للدفاع عن خيارات الحداثة والفكر والفن. وكانت هناك أيضا صيحة تحذير وتنبيه من الردة الفكرية التي تطرق الأبواب بعنف وتأكل في طريقها وطرقها الأخضر واليابس.
أن أيه مراجعة فنية لسينما نور الشريف، واي مرور على ملامح البطل الذي قدمه في أفلامه التي أشرنا إليها هنا، أو في بقية أفلامه التي تقارب 170 فيلما، وحتى ما قدمه من دراما إذاعية أو تلفزيونيه إضافة إلى العديد من الأعمال المسرحية، إنما هي أيضا مراجعة للتاريخ الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، للمجتمع المصري، خلال أربعة عقود، وهي في جزء كبير منها مراجعة أيضا للتاريخ السياسي والاجتماعي للحياة العربية بشكل عام.