نقد

هل هناك مزاج للحب.. قراءة في سينما وونج كار واي (1-2)

جيلان صلاح

رجل وامرأة، كادرات ضيقة، موسيقى وقصة حب بائسة وسط مجتمع محافظ خانق، يدفع المسالمين فيه للانتحار ويحتفي بمن يسايرونه بحثاً عن المتعة السرية.

"في مزاج للحب" هو اسم الفيلم الذي صنع من خلاله المخرج الصيني الأشهر وونج كار واي خلاصة النهج الخاص به والعمل الأكثر اكتمالاً في مسيرته الفنية. مع فالس حزين بعنوان "لحن يوميجي"، تأخذ معالم "في مزاج للحب" بالتشكُّل، وتتضح ذروة الصراع فيه، والمستمدة من "المنع" وليس "المنح" فبينما تتحدث غالبية الأفلام الحسية والعاطفية عن الانسياق والانجراف وراء العواطف، يستمد "في مزاج للحب" قوته وسحره من كبتها، والعواقب المترتبة على انغلاق شخصيتين محافظتين على نفسيهما، لئلا يجرفهما التيار فيتشبهان بمن آذوهما.

في ظل المجتمعات المحافظة، والتي يتدخل فيها الجيران والأقارب في حياة بعضهم البعض بدافع الملل أو الوصاية المجتمعية والعمرية على من يرونه "شارداً" أو "شاذاً" عما يجب أن يكون، تصبح العواطف أكثر تعقيداً، والملابس النسائية أكثر ضيقاً –فساتين السيدة تشان الشيونغ تسام الأنيقة التي تحتضن الجسد النساء ليصبح محكوماً وملفوفاً من أول الياقة العالية وحتى الطول الذي قد يصل لأسفل الركبة- والشوارع أقل رحابة مما ينبغي، والمشوار الذي يقطعه انسان وحيد لشراء طعام العشاء لقطة تستحق أن تتابعها الكاميرا بالسلو مو، والكمان يعزف بيزيكاتو في الخلفية، بينما اللحظات التعيسة التي يقضيها رجل وامرأة يعانيان من الشد الجنسي كلٌ في مكان عمله وسيلة لاستنباط ما هو أعمق من لحظات مختلسة من حياة تكرر مشاهدها كأنما فيديو على إنستاجرام نسي أحدهم أن يغلقه.

كادرات داخل كادرات

أعيا فيلم "في مزاج للحب" النقاد، فالكثير منهم فندوه بالتحليل والتشريح لاكتشاف سر عظمته، لكن أبلغ صورها بالطبع هي الطريقة التي عبر بها الفيلم بصرياً عن معاناة بطليه، وعن الشد الجنسي بين البطلين بالتركيز على تفاصيل التفاصيل، دخان السجائر المتصاعد بينما السيد تشاو يقضي وقته في المكتب يعمل، الطريقة التي تمسك بها السيدة تشان الأنيقة يد حقيبتها بينما الجارة المتطفلة تنصحها بالالتزام في غياب زوجها، الكلوز آب على اليدين، وأعقاب السجائر، وحذاء السيدة تشان وغيرها من الأدوات التي يستخدمها كار واي ببراعة كما اعتاد في إظهار وحدة الإنسان المعاصر في قلب المدينة العصرية متنامية السرعة، لم تكن هنا وسيلة للاستعراض البصري كما يمكن ملاحظتها في العديد من أفلامه، لكنها جميعاً تكاتفت.

في الفيديو ريفيو الذي أعده الفلوجر صاحب قناة يوتيوب "Nerd Writer"، وضح الناقد كيف برع كار واي في تأطير العديد من المشاهد داخل الإطار المربع للفيلم، بحيث يبقى بطلا الفيلم محبوسين داخل أشكال هندسية صغيرة في كل لقطة، ويزداد الشعور بحصارهما داخل مشاعرهما المكبوتة، وخوفهما –خاصةً مدام تشان نظراً لوضعها الحساس كامرأة وحيدة في مجتمع محافظ- من نظرة المحيطين، ومحاولتهما تضييق الخناق على نفسيهما، ومن وراءها، التظاهر بأن الشعور الذي يتنامى في أحشائهما ليس حقيقياً.

تأثر مخرجان من أهم مخرجي أمريكا المستقلين حالياً بكار واي وهما صوفيا كوبولا وباري جنكنز، إن دل على شيء، فهو يؤكد وصول كار واي للعالمية بانغماسه في تفاصيل خاصة بمجتمعه، جعلته يكتشف أصل حقيقة الإنسان الذي يعبر عنه والتي لن تختلف كثيراً من بلد لأخرى على الرغم من تعارض الثقافات. 

في فيلم "Moonlight" يستمد جنكنز تأثره بكار واي بالحكاية عن المنع لا المنح، فها هو رجل مثلي أفروأمريكي، يمنع نفسه من مجرد ملامسة رجل آخر سوى الحبيب الذي لم يحظَ معه سوى بلحظة شبق عابرة في المراهقة، يؤطر جنكنز شخصياته داخل الكادرات، ويستمد الباليته الحمراء من "في مزاج للحب" للتعبير عن انفعالات الشبق كما يحسن استخدام الباليته الزرقاء للتعبير عن الحزن والكبت، ويهتم بالموسيقى التصويرية سواءً التيمة الموسيقية لظهور الشخصية الرئيسية شايرون في مختلف مراحل حياته، أو باختيار الأغاني بعناية لا تترك مجالاً للعشوائية.

وكوبولا في فيلمها الأكثر نضجاً "Lost in Translation"، استلهمت التعبير عن وحدة الإنسان المعاصر في المدينة العصرية التي تتحرك دون توقف، وإحساس العزلة الناتج عن الخواء العاطفي، والذي يعجز الإنسان عن الانجراف فيه من "في مزاج للحب"، تعبيرها البصري عن الوحدة تمثل في الكلوز آب على وجه شارلوت، بطلة الفيلم، ويتابعها في محاولتها التأقلم –أو عدم التأقلم- على الحياة في طوكيو التي تعاني فيها فتور علاقتها الزوجية والاغتراب الثقافي والإنساني. 

تلاقي شارلوت مع الممثل بوب الذي بدأت الأضواء تنحسر عنه دون أن يسفر عن هذه العلاقة العابرة أي لقاء جنسي، يلقي بظلاله على تأثر كوبولا بكار واي، والذي شكرته هي من ضمن المخرجين الذي أثروا في مسيرتها الإخراجية. 
 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى