هل هناك مزاج للحب.. قراءة في سينما وونج كار واي (2-2)
جيلان صلاح
الإنسان المعاصر والرقابة الذاتية
استطاع فيلم كار واي أن يعيش حتى هذه اللحظة، نظراً لأنه يعبر عن الانسان المعاصر في بيئة محافظة حتى في ظل الانفتاح التكنولوجي المهول، فبينما تتمتع بعض الشرائح المجتمعية بنسبة لا بأس بها من الحرية الجنسية والمجتمعية والفكرية، تعاني الغالبية العظمى من الشرائح الأخرى من حالة تخبط بين ما هو مسموح وما هو مسكوت عنه.
هونج كونج الستينات لا تختلف كثيراً عن مصر التسعينات أو حتى الألفينات من حيث الروابط المجتمعية الصارمة، والتي يحاول الناس الالتفاف عليها والتحايل بالالتزام بالمظهر الاجتماعي الذي يضمن لهم إطاراً من الاحترام الذي يُجبر عليه بقية أبناء مجتمعهم. لكن السيدة تشان والسيد تشاو لا يريدان الانحدار لنفس المستوى الذي أوصلهما لذلك التيه. في محاولتهما الالتفاف على المجتمع الذي يعيشان فيه، وعلى فحوى علاقتهما، يسير السيدة تشان والسيد تشاو في لابيرنث لانهائية، رحلة شراء النودلز اليومية، الوقت الذي يقضيانه في الشقة ما بين كتابة وقراءة لما يكتبه السيد تشاو وتشجيع من قبلها.
وحتى تبدأ سلسلة المشاهد البارعة التي تختلط فيها التمثيلية بالواقع، فيأخذ كار واي بالمشاهد في رحلة عاصفة من المشاهد التي تبدأ فجأة، في منتصف الحوار كجملة اعتراضية، مما يضطره للتركيز في أبعاد المشهد، وهل هذه اللقطة تعبر عن علاقة السيدة تشان والسيد تشاو الحقيقية، أم أنها مشهد في محاكاتهما لما تخيلا أن تكون خيانتهما عليه.
عندما يكون الحب مزاجاً، يتعامل معه طرفا العلاقة على أنه رفاهية، أو إثم، لا يملكان ثمن لدفعه، أو حتى القدرة على تحمل عواقب الاختيار الخاطئ. ولهذا أوقف السيدة تشان العلاقة في كبد فورتها، وتحولت هذه القصة إلى ذكرى يمتنعان هما عن الإنجراف في استرجاعها بالذاكرة.
الشد الجنسي والجنس على الشاشة
في مفتتح فيلمه "سعداء سوياً"، يظهر كار واي مشهد جنسي لرجلين بصورة تفصيلية واضحة، يمتد المشهد الإيروسي لفترة طويلة وغير مريحة للمشاهدين، مما يزيد من إحساسهم بالتلصص على الحبيبين في وضع حميمي شديد الخصوصية، يمارسان الحب في الفراش بينما المشاهد يتأمل تفاصيل معاشرتهما لبعضهما البعض، بينما "في مزاج للحب" ينأى أن يظهر حتى قبلة واحدة على الرغم من ملحوظة أبدتها مشاهدة ذكية بملصق الفيلم الدعائي والذي يظهر البطلين وقد طغى عليهما اللون الأحمر، وبديا في وضع يتأهب للجنس أو ما بعد الجنس في لحظة شبق اختفت من الفيلم تماماً.
حرمنا كار واي من مجرد قبلة يختلسها البطلان، مما جعل المشاهد يشاطرهما العجز والحيرة من قدرتهما على الامتناع عن أكثر شيء يتمنيانه؛ في مشهد وبينما هما خارجان من الشقة التي يتقابلان فيها لتدعم السيدة تشان السيد تشاو، وبينما تخبره "لن نكون مثلهما"، يصل المشاهد إلى حقيقة ما يراه هذان الاثنان من أمر علاقتهما؛ فهي بالنسبة لهما علاقة محرمة، يحاولان جاهدين التخلص من إثمها عن طريق لعب دوريّ الزوجين الخائنين، في محاولة لتقمُّص الطرف الأقوى في علاقتين كانا فيها مهمشين، ملقيين جانباً بينما الرفيق الآخر يبحث عن المتعة بعيداً، وما بين محاولتهما تخطي الألم بالانغماس فيه، تتبدى حقيقة شعورهما تجاه بعضهما البعض، والذي يعُده قارئ غربي للفيلم –مثل Nerdwriter- أمراً عصياً على الاستيعاب. ولهذا يسهل استقراء "في مزاج للحب" للمشاهد العربي، حيث ألف كبوة وكبوة للعواطف والرقابة الذاتية على الاندفاع وراء الشبق ولحظات الجنون الشعورية هي المسيطرة، بينما الانسياق وراء نزوة عابرة هي الاستثناء الذي يستخدمه مخرجون آخرون ببراعة لبناء قصص كاملة؛ منها فيلم Wild Life إخراج بول دانو، أو Unfaithful إخراج أدريان لين، أو Little Children لتود فيلد.
التواتر الجنسي كما يعرفه علماء النفس، هو الانجذاب الجنسي بين شخصين، لا يحولان هذا الانجذاب إلى ممارسة جنسية بالفعل، و"في مزاج للحب" يستخدم التواتر الجنسي كالتيمة الرئيسية للعلاقة ما بين شخصين على حد قول الناقد الأمريكي كريج ليندسي "لم يقدر فيلماً من قبل أن يعبر بهذه البراعة الأسلوبية والخرق الإنساني عن شخصين يحاولان فهم ما يعني كل منهما للآخر عاطفياً".
يستطيع أي مشاهد عربي استنباط مواطن الشد الجنسي في الأفلام والمسلسلات التي تجسد قصص الحب المشحونة بالشبق، والذي لا يتم التعبير عنه بأكثر من حضن أو نظرة تحمل الكثير مما لا يستطيع الحبيبان تجسيده وفقاً لمحاذير مجتمعية أو رقابية، وإن كان هناك وسيلة للتعلُّم، فينبغي على أي صانع أفلام يخشى التوغُّل في بركة الشبق والعلاقات الجسدية المبنية على العواطف، أن يذاكر "في مزاج للحب" ليتعلم كيف يمنع فيمنح المشاهد جرعة مشحونة من العواطف الممثلة تمثيلاً جيداً لا مبتوراً بحسب مجرى الأحداث، والحبكة، والحاجة الدرامية.