هل يستحق محمد مفتكر التتويج بالجائزة الكبرى للمهرجان الوطني بالمغرب
فؤاد زويريق
لم أشاهد الفيلم الأخير ”خريف التفاح” لمحمد مفتكر لكن سأسرد وأذكِّر -لعل الذكرى تنفع المؤمنين- بمساره كمخرج وألقي نظرة خاطفة على تجاربه التي أهلته ليتربع بسهولة وبسلاسة وبدون مفاجأة على عرش المهرجان الوطني في نسخته الأخيرة.
كنت قد قرأت تصريحا جميلا للمخرج محمد مفتكر في إحدى الصحف الوطنية، وفيه ذكر انه تعلم السينما من النقد، في الحقيقة أثارني ما قرأت فأن تنطلق من النقد لتكون مخرجا يعني أنك تقف على أرضية صلبة ستؤهلك لا محالة لخوض غمار التجربة بأريحية بالغة، فالتكوين النقدي كمرحلة أولية سيجعل منك أداة طيعة في يد عدسة ذات خلفية طموحة، مسؤولة، واعية بما ينبغي ولا ينبغي عمله مراعاة للذائقة العامة، وخدمة لجمهور يتطلع للرقي بالذات وتهذيب ذوقها الفني. فالسلوك الاستغلالي الذي يتميز به بعض المخرجين المغاربة وهشاشة فكرهم وثقافتهم، تركا فئة عريضة من الجمهور ومعها النقاد يبحثون عن قادة سينمائيين حقيقيين قادرين على توجيه الدفة بسلام، قادة بعيدين عن أنانيتهم ومصلحتهم الشخصية، قريبين من هويتهم وموروثهم الثقافي وواقعهم المجتمعي، متماهين مع آلام ذواتهم، قادة يستطيعون بتجربتهم وتكوينهم تجاوز الأزمة المتأزمة بين الجمهور وسينماه الوطنية.
درس محمد مفتكر الأدب الإنجليزي قبل أن يتجه إلى العمل السينمائي، عشقه وإيمانه بالسينما كأداة تعبيرية قوية قادرة على إيصال رؤاه إلى الآخر بسهولة، جعله يأخذ مكانه خلف الكاميرا، وقد مكنه عمله هذا وخصوصا مع المخرج المغربي مصطفى الدرقاوي من التقرب من الإخراج السينمائي والإلمام بأبجدياته، عمل لمدة سبع سنوات كمساعد مخرج في عدة أعمال وطنية ودولية، لينجز بعد ذلك فيلمه الأول “ظل الموت” الذي فاز سنة 2003 بجائزة النقد وجائزة أحسن عمل في مهرجان وجدة، ليتبعه مباشرة بفيلم قصير آخر هو “رقصة الجنين”. عشقه للسينما لم يقف عند أعتاب الهواية بل صقله وقومه بالدراسة والتكوين في فرنسا ثم ألمانيا وأخيرا في تونس، حيث درس وشارك في مجموعة من الورشات السينمائية.
إضافة إلى العملين المذكورين أخرج محمد مفتكر أفلاما قصيرة أخرى منها ” نشيد الجنازة” الفائز بعدة جوائز من ضمنها الجائزة الكبرى للدورة العاشرة للمهرجان الوطني للسينما المغربية بطنجة فئة الأفلام القصيرة، أما الأفلام الروائية الطويلة فسنحصرها ب”محطة الملائكة” أولا وهو فيلم مشترك بينه وبين نرجس النجار وهشام العسري، ثم فيلم “براق” 2010 الذي فاز بدوره بعدة جوائز أهمها الجائزة الكبرى للمهرجان الوطني للسينما المغربية في دورتها الحادية عشر.
وبعده يأتي فيلم ”جوق العميين” أنتج سنة 2015 والذي لم يستثن أيضا من جوائز مهمة كجائزة التانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائية، والجائزة الكبرى ”الوهر الذهبي”‘ في المهرجان الدولي للفيلم العربي بوهران، وجائزة الإخراج في الدورة الـ16 لمهرجان الفيلم الوطني بطنجة، ثم في الأخير فيلمه ”خريف التفاح” 2020 الذي توج مؤخرا بالجائزة الكبرى للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة.
عُرف محمد مفتكر بتميز أفلامه القصيرة كما أفلامه الروائية الطويلة، التمعن في اختيار الموضوع وتركه يستوي على نار هادئة قبل بدء التصوير (فكما نلاحظ الفرق الزمني بين أفلامه خمس سنوات تقريبا) هذا بالإضافة إلى الأسلوب الفني المتقن وجمالية اللغة وشاعريتها مع التكثيف الإيجابي للرموز… كلها أدوات إبداعية ساهمت في تشكيل هوية مفتكر الفنية، وساعدت على التعريف بأفلامه وانتشارها على نطاق أوسع، وربما هذا هو سر حصوله على كل هذه المجموعة القيمة من الجوائز.
لم يأخذ محمد مفتكر الفن السينمائي كمشروع تجاري استهلاكي، بل جعله فكرة فلسفية وحركة ثقافية وظاهرة اجتماعية وعملا محبوكا، يخاطب به عقل وتفكير المشاهد، يوقظ أحاسيسه بجمالية لغته وحبكته الدرامية المتجدرة في متاهات واقعه وخياله معا.
وهكذا إذن يظهر لنا النسيج الإبداعي لمفتكر من خلال الرؤى المتداخلة في أفلامه، إذ تمثل تقاطعا مستمرا لسيكولوجية شخصيته وتكوينها الاجتماعي، فكل العناصر المكونة لأعماله من شخوص وديكورات وسيناريوهات وأضواء وظلال وموسيقى… تنم عن شرخ نفسي يسعى المخرج إلى التئامه وعلاجه، هذا الشرخ الذي يعبر في نفس الوقت عن رمز الألم والمعاناة الإنسانية التي تعيشها مجتمعات بعينها من بينها مجتمع المخرج نفسه.