وحيد حامد.. العرّاف
زين العابدين خيري
الكتابة عن وحيد حامد لا تحتاج إلى مناسبة وإن حضرت كتكريمه في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الذي انتهت فعالياته بالأمس، ومهما تكررت الكتابات عنه ستظل كإلقاء حجارة صغيرة وسط بحر، بالتأكيد لن تؤثر عليه هذه الحجارة بالإضافة أو النقصان، ولكنها ربما تصنع موجات صغيرة تكشف ولو أقل القليل من اللآلئ في قاع هذا البحر المتجدد ماؤه دوما.
وحيد حامد الرمز الذي يعتبر الأبرز في جيله بين كتاب السينما، فلو تم اعتبار أسامة أنور عكاشة رمزا للكتابة الدرامية التليفزيونية في جيله وخصوصا في فترة ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، فالمقابل الموضوعي له سينمائيا سيكون وحيد حامد، والاثنان –أسامة ووحيد- تبادلا الإنجاز سينمائيا وتليفزيونيا ومسرحيا وإذاعيا، وإن بقي لكل منهما مملكته الخاصة التي يجلس على عرشها، وهذا دون إغفال بالطبع للإنجاز الكبير لبقية رموز هذا الجيل نفسه سينمائيا وتليفزيونيا ومعظمهم يستحق دراسات خاصة ترصد أعمالهم المتميزة.
المستشرف
أما وحيد حامد فلم يكتف بكونه كاتب سيناريو يقدم قضايا حياتية معاصرة وينقلها إلى السينما بعين موضوعية ولا حتى ناقدة فقط، بل قام ومنذ نعومة أظفاره في هذا المجال بلعب دور المستشرف، ولذا أرى أن وحيد حامد هو أكثر من يستحق لقب “العرّاف” بجدارة واستحقاق؛ فقد قام عبر عشرات الأعمال في السينما والتليفزيون بالغوص في أعماق المجتمع المصري مستخرجا أحشاءه غير مكتف بدور المشرّح والمحلّل بل استشرف كل ما هذا المجتمع أصبح مقبلا عليه.
نعم لقد كان العرّاف الحقيقي الذي ألقى الضوء على ما يواجه هذا المجتمع من خطر داهم نتيجة أمراض متفشية تنهش في جسد هذا الوطن دون أدنى محاولة من الأنظمة الحاكمة لمعالجتها. ولم يكتف وحيد حامد بتسليط الضوء على هذه الأمراض وإنما قام بتقديم روشتة لعلاجها تبدأ بمواجهتها أولا والاعتراف بها لا الهروب منها وإنكارها، وتقديم أسباب نشأتها وترعرعها ثم تفشيها بهذا الشكل الذي أصبح خطرا حقيقيا يضرب جدران هذا الوطن الصلبة وينخر فيها بدأب الآفات والجراثيم التي إن لم تتم الوقاية منها مبكرا فعلى الأقل إبادتها لحظة ظهورها.
لم يكن وحيد حامد أبدا من نوعية الكتاب الذين يسيرون بجوار الحائط غير عابئين بآلام الوطن والناس في سبيل شهرة أو مال –وإن حققهما بقلمه فقط-، ولم يقل يكفي ما قدمته لأعيش بقية حياتي مهادنا ومداهنا النظام الحاكم الذي عانى الجميع من فساده، بل استغل شهرته ومصداقيته وهامش الحرية المتاح ليكون أكثر صلابة وشراسة في كشف سوءات هذا النظام وخطاياه.
30 يونيو
وظل حافرا بقلمه في صلب جبل الفساد محاولا فتح ولو طاقة نور صغيرة، وحتى عندما رأى نورا في نهاية النفق المظلم بعد ثورة قامت لهدم هذا النظام لم ينبهر بهذا النور مثلما فعل كثيرون بل أخذ يستكشفه ليعرف إن كان نورا حقيقيا أم مجرد فلاش خاطف سيبهرنا فقط دون أن يحقق المرجو منه ويكشف لنا بداية الطريق الصحيح الذي يجب أن نسير عليه قبل أن يخفت تدريجيا نتيجة عيوب في مصدره أو في اتجاهه، خصوصا بعد أن خطفت شعلة هذا النور جماعات ظلامية صعدت إلى القمة لتقذف بها من علٍ لتطفئها إلى الأبد، وهو الذي طالما حذّر عبر أعمال عديدة من خطورة تلك الجماعات الظلامية الإرهابية وواجه في سبيل ذلك العديد من التهديدات التي وصلت إلى حد تهديده بالاغتيال، ناهيك عن القضايا المتعددة التي تم رفعها ضده، ولكنه دائما ما كان يخرج منتصرا في كل معاركه أيّا كان من يواجهه وأيا كانت وسيلته وسلطته.
في الفترة السابقة لثورة 30 يونيه وبعد صعود تيارات الإسلام السياسي على السطح ووصولها إلى سُدّة الحكم، كان اسم وحيد حامد هو الأكثر تداولا على مواقع التواصل الاجتماعي ليس بين النشطاء السياسيين فقط وإنما بين عامة مستخدميها، فقد تعامل كثيرون من الجمهور كما النقاد مع ما كان يكتبه وحيد حامد بخصوص تيارات اليمين الديني المتطرف على أنه مبالغات فنية قد أصابها الكثير من خيال المؤلف الموتور تجاه تلك التيارات.
بل واتهمه البعض أنه يفعل ذلك بإيعاز من جهاز أمن دولة مبارك، ولكن لما رأى الجميع حقيقة تلك التيارات التي تكالبت على السلطة على أكتاف ثورة 25 يناير لم يتردد هذا الجمهور في ترديد عبارة “أنا آسف يا وحيد يا حامد”، فقد كان الأكثر رؤية لهذه التيارات والأكثر دراسة لها ومعرفة بمكنوناتها ودوافعها وخططها، واستعدادها للتحالف مع الشيطان، وقد تحالفت بالفعل وتواءمت واستفادت من كل فساد النظام السابق لها للوصول إلى مبتغاها في التمكين. ولم يكن مشهد النهاية الذي كتبه وحيد حامد في فيلم “طيور الظلام” (1995) إلا المستقبل الذي تنبّأ به العرّاف يتشكّل استعدادا لأن يلعب به تحالف الفساد والإرهاب.